الثلاثاء, أبريل 16, 2024
تحقيقاتمجتمع

أهوالُ الحروب.. قصصٌ من أفواهِ البنادق لأَحياءٍ على حوافِ القبور

قضية تطرحها: صفية الصديق

صفيرة أحمد، امرأة مهمومة بقضايا الوطن، تحمل قيم الوحدة والمساواة وتحلم بوطن بألوان الطين والأرض، مؤمنة بالحرية، العدالة والسلام؛ عندما اشتعلت الحرب في جنوب كردفان في يونيو 2011 تركت صفيرة منزلها مفروشاً لا ينقصه سوى ساكنيه حملت سلاحها بحثاً عن السلام الذي طالما نادت لأجله بدون بندقية.

هجرت صفيرة قريتها وقُتِل والدها خلال سنوات الحرب ولحقته أمها حسرةً. عادت صفيرة بعد (6) أعوام أو يزيد لمنزلها وجدته (خرابة) وما يؤلمها أن من أطلقت عليهم جلاديها ينامون على أثاثها تذهب إليهم وتجلس على (العنقريب) الذي نسجته بيدها وتشرب الشاي في أكواب لديها معها ذكريات وتتذكر يوم ذهبت إلى السوق واشترتها هي وأختها.. آثرت أن تصمت لأنها فقدت ما هو أغلى على حد قولها: (لقد فقدت وطني، فقدت قريتي، فقدت الأمان والسلام وفقدت أخواناً وأخواتٍ وأطفالاً وجدنا بطونهم مبقورة لا لذنبٍ سوى أنهم أبناء أو بنات لرجال ونساء متهمين بممارسة العمل السياسي المعارض).

عدم الانتقام والغفران

تركت أثاث منزلها وكل ما تملك لا لضعف منها لاسترجاعه كما تقول لكن لأن القوانين معطوبة ولم يحن الوقت للمحاسبة ولدى صفيرة، هدف أسمى لخصته في قولها: (لا أريد أن أطالب بحقي بشكل فردي، ولا أريد أن انتزعه حتى أحدث شرخاً آخر في المجتمع، لا أريد الانتقام أغفر وأسامح لأننا في عهد العدالة).

آثار جرائم التشفي

وتتساءل فدينة عن تأثيرات الحرب على مواطني جبال النوبة ذهنياً وتشير لمن تأثروا عقلياً، لترد فدينة الشابة ذات الـ (19) ربيعاً على نفسها: هي الحرب، جعلت شبابنا ونساءنا في جبال النوبة يفقدون عقولهم لهول ما رأوه فيها من قتل وتمثيل بالجثث وفقدان للأهل والأقارب أمام أعينهم، قتل الأبرياء فقط للتشفي، رأينا كيف يتلذذ من يقتلوننا بالدم والسحل، رأينا كيف يُقتل اليافعون من بشر بلا قلوب، رأينا وسمعنا بمن قُتِلوا وحُرِقوا فقط لأنهم أقرباء لمن ينتمون للحركة الشعبية أو متهمين بهذا الانتماء.

وتواصل في حديثها بأنه لكل ذلك كانت الإعاقات العقلية والجسدية وكل التشوهات النفسية من نصيبنا، فالناظر لأكثر المشردين وأغلب ذوي الإعاقة العقلية وكثير من ذوي الإعاقة الجسدية هم من مناطق الحروب، لقد خبِرنا الأذى بأشكال متعددة وما زلنا نعاني، فالعائدون من دولة جنوب السودان بعد اتفاقية السلام يحتاجون لترتيبات وسياسات اندماج في المجتمع، فالأطفال في سن الدراسة نشأوا وتربوا مفصولين عن عالمهم يدرسون باللغة الإنجليزية ويتخاطبون بها خصوصاً أن هنالك عدداً كبيراً من الأطفال فرّ لدولة جنوب السودان دون أهله فإن قرروا العودة ستواجههم مشاكل التواصل والاندماج في المجتمع، فأنا أبلغ من العمر (19) عاماً ودرست معظم مراحلي الدراسية في جنوب السودان ومعي إخوة وأهل صغار في السن لن يتمكنوا من الاندماج في المدارس، وأنا مواجهة بمشكلة ثانية وهي أن أغلب الجامعات منهجها باللغة العربية فإن لم تُناقش قضايانا هذه في أجندات السلام فمستقبلنا سيكون في كفوف الحرب رغم وقفها ميكانيكياً.

المنسيون في الأرض

المنسيون في الأرض، البعيدون عن النظر بعيدون عن الاهتمام، ساكنو جبال الكدّالو في الحدود الشرقية لولاية النيل الأزرق مع دولة إثيوبيا، عانوا ويلات الحرب وما زالوا يدفعون فاتورتها فقراً وتشريداً وانعداماً في الخدمات الأساسية؛ حكايات الحرب يرويها الباشا عنتر من قرية جبل النوم: قرى الكدّالو عاشت عزلة مطولة طوال سنوات الحرب ولا زالت منطقة شبه مقفولة تعيش قراها الـ (14) حالات حزن مُزمِنة، فكل بيت عانى ويلات الحرب وما زالت كثير من البيوت تعيش حالات حزن كبير بسبب فقدانهم لأسر كاملة- أمهات فقدنّ أبنائهنّ لا يعرفن إن كانوا أموات أو أحياء فتخيل أن تنتظر أم عودة أبنائها السبعة لـ (10) سنوات، وأخرى ترى أولادها يموتون أمام أعينها وطفلاتها يّغتصبنْ على مسمع ومرأى الجميع.

أهوال الحروب

بينما يحكي الباشا عنتر لـ (مدنية نيوز) قاطعه شاب نحيل الجسم ترى في وجهه أنه يحمل هم العالم: (أخواني طلعوا من 2011 واحد قتلوهو قدامنا والتلاتة طفشوا سمعنا بيهم مأسورين وما لقينا ليهم خبر، أمي ما بتنوم لو بتعرفوا ناس ممكن يسألوا منهم بنديكم صورهم وأسماءهم).. سكت الجميع.. لتقاطع حليمة ذلك الصمت وتقول هذه أسهل القصص فلكِ أن تتخيلي أن يعود رجل لبيته بعد سنوات اختفاء وإخفاء في الحرب ليجد في بيته (7) أطفال منسوبين إليه وهو لم ينجب منهم غير اثنين… هل تعلمين من هؤلاء؟!، هم أبناء وبنات جاؤا نتيجة اغتصاب للأم كأحد أسلحة الإذلال والكسر للرجال والنساء. فتخيلوا أن يعود هذا الرجل يومياً لبيته ويرى هؤلاء الأطفال ولا يملك غير أن يتعامل معهم ويتصالح مع زوجة مكسورة.

انتظار العدالة

هؤلاء المتأثرون بالحرب ورغم قساوة الحكاوى ينتظرون عدالة الفترة الانتقالية، يثقون في الحكومة المدنية ولا يؤمنون بدونها، يدعمون المدنيين ويتفهمون تحديات الفترة الانتقالية؛ كل ما ينتظرونه سلاماً حقيقياً يحقق لهم العدالة وينصفهم؛ يعيد لهم الحياة والحقوق. سلام وعدالة تمكنهم من الوصول للخدمات الأساسية ومحاكمة الجناة والضالعين في القتل والتشريد، يطالبون باستمرار بتكوين مفوضية العدالة الانتقالية إذ يعتبرونها بوابة استعادة كرامتهم وبعض من حقوقهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *