التعب والأكل الكعب
بقلم: حيدر المكاشفي
بيانٌ صحفيٌّ مُقلقٌ ومُزعج ذاك الذي أصدره نائب رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر جيل كاربونييه في ختام زيارته إلى السودان الأسبوع الماضي، إذ جاء في هذا البيان أن عوامل عدة تضافرت لتفاقم من أزمات ومشكلات السودان وحاجته للعون الإنساني، وشكلت تهديدًا لصحة ورفاه مئات الآلاف من السكان، وأنه يُقدَّر أن واحدًا من كل أربعة سودانيين يواجه حاليًا نقصًا في الأغذية مع ارتفاع الأسعار وتصاعد الاشتباكات، وأنّ ملايين الأشخاص في النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور يعانون من نقص في الغذاء والمياه والرعاية الطبية وغيرها من الاحتياجات الضرورية للبقاء على قيد الحياة. ومثل هذه الحالة التي وصفها رجل الصليب الأحمر، وقال إن ملايين السودانيين يعانون منها؛ هي الحالة ذاتها التي يصف الإبداع الشعبي من يعانونها بأنهم (راقدين خيط) وفي رواية (راقدين سَلَطة) بفتح السين، في وصف من تبدو عليه ملامح الضعف والإرهاق والتعب، أما إذا قال لك أحدهم إن هذا الشيء (راقد قش) أو (راقد هبطرش)، فإنه يعني الكثرة والوفرة.
وعطفًا على بيان الصليب الأحمر المارِّ ذكره تبقى الحقيقة الملاحظة والمُعاشَة هي وجود مشكلة غير خافية في التغذية لدى عامة المواطنين، ومن أظهر مظاهر ذلك نسبة التردد العالية بالمستشفيات والتي يمكن نسبتها بالأساس لضعف الغذاء، ويعزز هذه الملاحظة أن وزارة الصحة (لا أتذكر أيهما الولائية أم الاتحادية ويرجح عندي أنها الأخيرة)، كانت قد قالت للناس قبل نحو أعوام ما معناه بالعبارة الشعبية (إنتو راقدين سلطة)، وذلك من خلال تصريح منشور في توصيف الحالة الصحية العامة في البلد، مفاده أن الحالة العامة للمواطنين تعاني ضعفًا في المناعة الطبيعية، ما يعني أن الأجسام لم تعد تقوى على مقاومة الأمراض ودحر الجراثيم والميكروبات بالكفاءة والقدرة المطلوبتين لوسائل دفاع الجسم الطبيعية، بما يؤدي إلى الضعف والهزال العام والقابلية للإصابة بالأمراض.. كما نشرت من قبل بعض الصحف السودانية، ملخصًا لدراسة أجراها عدد من أساتذة الطب، ورد فيها أن 60 في المائة من مرضى ولاية الخرطوم يعانون من الأمراض (النفسو جسدية) التي يتداخل فيها المرضان النفسي والجسدي، وعزت الدراسة هذه النسبة العالية من الإصابة بهذا المرض المشترك بين ما هو عضوي وما هو نفسي، إلى الضغوط الحياتية المتزايدة، وإذا ما قرأنا هذه الدراسة الأخيرة لمجموعة من أساتذة الطب مع التقرير السابق لوزارة الصحة وما قاله مؤخرًا نائب رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، سيتأكد لنا فعلاً أن الكثير منا (راقدين سلطة).
وقد صدقت الوزارة ومن بعدها دراسة أساتذة الطب ومن بعدهما رجل الصليب الأحمر، فمن يرى الحالة العامة للناس في الشارع العام أو في مواقف المواصلات أو داخل البصات والحافلات، أو هم يتحلَّقون داخل وحول مستشفيات الميري أو في أي ملتقى أو تجمع شعبي، يلحظ بوضوح الرهق والتعب والضعف البائن على محيَّاهم وخطواتهم المتكاسلة، بل إنك قد لا تحتاج أكثر من أن تنظر لنفسك وتُقيّم حالتك الصحية لتكتشف أن مناعتك قد ضعفت وصرت أكثر قابلية لاستقبال الأمراض، إذا عطس جارك أصبت بالإنفلونزا لا محالة وعلى ذلك قس (والله يستر من الكورونا)، وكيف لا تضعف المناعة ولا تصاب نسبة كبيرة بالأمراض (النفسو جسدية)، وقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية وبلغت سقفًا لم يستطع بلوغه السواد الأعظم، بل إن عددًا كبيرًا جدًّا ممن بلغوه قد بلغوه بشق الأنفس وعلى حساب عدد من الضروريات الأخرى، وهذا وحده من أكبر أسباب إضعاف المناعة التي يحتاج بناؤها إلى التغذية الكاملة المتوازنة وبكمية معلومة صحيًّا، وإلى عدد معلوم كذلك من السعرات الحرارية التي تمد الجسم بالطاقة والحيوية، هذا غير حاجتها إلى الراحة والهدوء والنوم الهانئ لساعات كافية. إذن، كان من الطبيعي مع البوش والحشو أن تضعف المناعة، وكان من الطبيعي أيضاً مع الهموم و(المساسقة) واللهث والضغوط أن تعتل النفوس.