الخميس, أبريل 25, 2024
مقالات

عبد البارئ.. الدولة الحديثة ليست قومية

الخرطوم: حسين سعد
يتردد كثيرا أن أجمل ما يميز السودان هو التنوع في جميع مكوناته سواء أكانت الثقافية أو العرقية أو الدينية، أو حتى البيئية والمناخية، ولكن رغم ذلك ظلت مسألة الهوية من أكبر أسباب التوتر والحروب وعدم الاستقرار، خاصة وأن النخب السياسية التي تشكلت على أكتافها الحكومات الوطنية المتعاقبة كانت منحازة إلى هويات بعينها ضاربة بكل جماليات التنوع والتعدد عرض الحائط.

فمنذ مؤتمر الخريخين كانت هذه القضية المستعصية، خاصة وأن من أناشيد المؤتمر في ذلك الزمان التي يرددها الأعضاء، نشيد إلى العلا الذي جاء فيه:

أمةٌ أصلُها للعربْ دينُها خيرُ دينٍ يُحَبْ

في هذه المساحة نناقش وجهة نظر وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري حول التنوع، حيث قدم وجهة نظره في ورقة له بفندق القراند هوليداي فيلا في ورشة “إعلان المبادئ ودولة المواطنة” والتي تأتي في إطار مشروع دعم التحول الديمقراطي والسلام المستدام، يومي الأحد والاثنين الماضيين حيث جاءت ورقته تحت عنوان:
“الهُويات المتعددة في السودان، وعدم انحيازية الدولة”

وجوهر الورقة ينصب في أن وجود دولة غير منحازة أو غير انحيازية، تعامل مكوناتها المتنوعة على حد السواء، هو شرط لازم لاستقرار وسلامة المجتمعات غير المتجانسة.

تتمثل جوهرية هذه النقطة لكونها مدعاة للنجاة من براثن الفتن والاحتقان الذي عادة ما يتسبب في الاحتراب، والقتل والدمار، وبالتالي فإن الورقة تنادي بمبدأ الحكم الفيدرالي الحقيقي، وبالعودة إلى عام 1955م وحمل حركة (أنانا 1) للسلاح نجد ذلك دليلا على الانحياز لفكرة بعينها أو جهة بعينها وجعلها جزءا من مبادئ الدستور، ففي الأمر أسباب انهياره.

تشير الورقة إلى أن الدولة الحديثة ليست قومية، وبالتالي فهي ترسم ط خطا واضحا بين الهويات وأجهزة الدولة التي ينبغي أن تنشغل بالمصالح العليا لمكوناتها، وتعزيز التعايش السلمي بين مجموعاتها وعناصرها المتنوعة من جهة، وبإرساء القواعد الضرورية لتقدمها من جهة أخرى.. لكنه يرجع ليقول: إن الحكومات الوطنية التي تعاقبت على البلاد فشلت في القيام بذلك.

فصَّلَت ورقة وزير العدل نصر الدين عبد الباري في قضايا متعددة أهمها قضية التنوع، حيث يقول إن التنوع يمثل السمة الأساسية التي تميز المجتمعات البشرية منذ أن ظهر البشر للمرة الأولى.. ويشير في هذه الجزئية إلى استحالة وجود دولا أو مجتمعات متجانسة كليا، حتى في دولة مثل اليابان.

وفي النقطة التالية تتحدث الورقة عن سؤال المتطرفين المفضل (من نحن/ من أنا؟).. وتجيب الورقة أن هناك سببان أساسيان وراء إثارة المتطرفين باستمرار لهذا السؤال، الأول هو عدم قدرتهم على إدراك قيمة وأهمية الاختلاف والتنوع، والثاني اعتقادهم الخاطئ أن الناس يجب أن يكونوا جميعا متجانسين في المجتمعات التي يعيشون فيها، وأن الثقافات والأعراق والأديان وغيرها من مكونات الهوية جامدة لا تتحرك.

ويشير إلى موقف منبر السلام العادل خاصة بعد انفصال جنوب السودان، أن السودان أصبح دولة عربية إسلامية، ودللت الورقة على عدم صواب هذا الموقف في عدة جوانب، حيث رأت أن النوبة في جنوب كردفان غير عرب وغير مسلمين، والنوبة في شمال السودان مسلمون غير عرب، وسكان دارفور مسلمون غالبيتهم من غير العرب، فكيف إذن لمنبر السلام العادل أن ينحو منحاه هذا وهو المساهم الأكبر في انفصال جنوب السودان.

وتستشهد الورقة بتعبير قال به مصمم رؤية السودان الجديد الراحل د. جون قرنق في واحدة مقولاته التي تمثل دستورا مكتملا:

“في حكمته اللا متناهية، إنه نفس الإله الذي خلق العرب، الذي خلق النوبة، الذي خلق الفور، الذي خلق الدينكا، الذي خلق النوبيين، الذي خلق البجا، الذي خلق الشلك، الذي خلق كل المجموعات العرقية الخمسمائة المختلفة في السودان… فمن هو هذا الذي يريد تعديل خلق الله. إن الذي يقوم بهذا التعديل، أود أن أقول: هو ضد الله. وإذا رفعت دعواي هذه أمام الله، فإنني سوف أكسبها”.

والمعروف أن الراحل جون قرنق من الذين فتح الله بصيرتهم على الحلول الناجعة لمشاكل السوادان، وهو القائل أيضا:
“إن الإسلام لا يوحد السودانيين، ولا المسيحية، ولا العروبة، ولا الإفريقانية المضادة للعروبة، السودانوية وحدها القادرة على توحيد السودانيين”.

وبالتالي فإن شعب السودان ما لم يعترف بأنه أمة متعددة ومتنوعة على مدى التاريخ البعيد لن يكون ثمة حل ممكن أبدا لمشاكل السودان.

وميزت الورقة بين مفهوم المواطنة والهوية، حيث ترى أن الأولى علاقة قانونية دستورية بين الأفراد ودولهم على أساس الحماية والولاء، أما الهوية مفهوم ثقافي يربط الناس على أساس الهوية المشتركة. والمواطنة مفهوم قانوني.

وتحدثت الورقة أيضا عن فناء القومية، والهوية ودستور السودان المستقبلي، حيث رفضت تحديد مادة تحدد الهوية الوطنية واللغة في الدستور لأنها قد تكون مشكلة في البلدان التي فيها أقليات أو أغلبيات.

كما حددت الورقة أن مشروع دستور 1968م هو أول دستور يحدد الهوية الوطنية ولغة الدولة حيث حدد أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وأن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة.. على ذلك تعتبر الشريعة هي المصدر الرئيسي لقوانين البلاد، وأن جميع القوانين التي تصدر مخالفة للشريعة ستكون لاغية وباطلة.

وفي لمحة ذكية استدعت الورقة أساس وجود دستوري في تاريخ الإسلام دون تحديد هوية دينية، وهو أول وثيقة في تاريخ الإسلام حيث سماها النبي (ص) وثيقة المدينة، وهي الدستور الذي يقوم على أساس المواطنة بين المسلمين واليهود والمسيحيين والوثنيين.

كما طالبت الورقة أن يكرس الدستور على بعض المبادئ، أهمها، حقوق الإنسان، تحريم التمييز، الحق في المواطنة، الاعتراف بالاختلافات، والفيدرالية، وقد فصلت الورقة في كل هذه النقاط.

بصورة مجملة فإن الدراسة التي كتبت بين العامين 2011- 2012م لمؤلفها الباحث في القانون وحقوق الإنسان نصر الدين عبد الباري، وزير العدل بحكومة الفترة الانتقالية، يمكن اعتبارها لبنة أساسية لمعالجة واحدة من أكبر تحديات أهل السودان فيما يتعلق بالتعدد والتنوع والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع المختلفة، ووقوف الدولة من أفرادها على درجة واحدة من المساواة.

وإن توقيع إعلان المبادئ الذي تم بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان ورئيس الحركة الشعبية شمال القائد عبد العزيز الحلو، ووجود مؤلف الورقة على رأس السلطة العدلية، كل هذا تبشير بتحولات كبرى وإرادة قد تخلق الفرصة الأكبر في تاريخ السودان لتحقيق الحلم العظيم بوطن شامخ وطن عاتي وطن خيِّر ديمقراطي كما يقول الراحل محجوب شريف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *