الدولة المدنية.. والتنمية الريفية (1)
بقلم: د. مرتضى الغالي
مفهوم الدولة المدنية والحكم المدني يكاد يخلق التباساً في مستوى اللغة (على أقل تقدير) حيث يبدو وكأنه يُعني بتركيز الاهتمام على المدينة والمناطق الحضرية ويتباعد عن الاهتمام بالريف..! ولكن هذا على النقيض من جوهر الحكم المدني الذي يعني أول ما يعني العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة المتساوية والإنصاف والاندماج المجتمعي والتوزيع العادل للثروة والسلطة بين أقاليم البلاد وفي جميع المناطق والأنحاء وعلى امتداد وجود المجموعات السكانية داخل الدولة.. ومن هنا ينبع الاهتمام بقضية تنمية الريف في بواكير استهلال العودة للنظام الديمقراطي والتعددي في بلادنا بعد عقود من الشموليات؛ وبعض دورات متعاقبة من أنظمة الحكم لم تولي تنمية الريف الاهتمام المستحق مما أفضى إلى ما (مأزق التهميش) الذي قاد بدوره إلى دورات جهنمية من النزاعات وطبقات من الغبن والاحتقان بعضها فوق بعض..!!
وقد طالعنا مؤخراً بحثاً قيماً لدكتور عبد الرحيم بلال حول التنمية الريفية، وبلال هو بمثابة عرّاب المجتمع المدني السوداني، ويُعد في مصاف الخبراء الأمميين وفي الصف الأول بين قائمة قصيرة من الذين اهتموا مبكراً وبتواتر ودأب كبير على شحن أوردة المجتمع المدني بالتثاقف المتواصل لإنهاض المجتمع المدني باعتباره (الضلع الحيوي) في مثلث (الحكومة- القطاع الخاص – المجتمع المدني) وهو المثلث الذي اتفقت الأدبيات على تحديده وبيان ضرورة تكامله من اجل التنمية الشاملة في المجتمع. وبالنظر إلى أهمية التنمية الريفية لا يمكن إغفال تأثيراتها البنيوية والجذرية على مسار الحياة السودانية منذ نشوء الدولة ومسيرتها عبر تاريخها الحديث من فجر الاستقلال والى هذه اللحظة الراهنة التي ترافق ثورة ديسمبر بكل محمولاتها وشعاراتها التي تدعو إلى الحرية والعدالة والسلام كأساس للجمهورية الجديدة؛ الأمر الذي يستوجب نظرة جديدة واهتماماً اكبر بقضية تنمية الريف وهي من اكبر التحديات التي يواجهها الوطن وهو يعود إلي منصة التأسيس من جديد لمراجعة كل المُسلّمات السابقة وبداية الإعداد لتنمية متوازنة تأخذ بالمجتمعات الريفية يداً بيد مع المجتمعات الحضرية، خاصة وأن الريف السوداني هو المصدر الأكبر لثروات السودان وموارده، وتوجد به الغالبية العظمي من السكان بما يشير إلى أن إهماله إنما يعنى زعزعة الاستقرار وتصعيد النزاعات وتلقيح الحروب.. وفقر المدينة والريف معاً..!
نحن أمام قضية هي الشغل الشاغل لدول ومجتمعات العالم الثالث وبصدد بانوراما واسعة الابعاد من الاجتهادات والتجارب في معالجة الخلل الناشئ عن انحراف ميزان معادلة التنمية بين الحضر والريف. ولا بد من الإشارة إلى أن استيراد (القوالب الجاهزة) ومحاولة تركيبها في مجتمعات أخرى تختلف في واقعها المحلي عن دول منشأ هذه القوالب يُحسب من الأخطاء التي يجب تجنّب الوقوع فيها؛ ولكن هذا التحذير لا ينفي أن هناك عموميات واستراتيجيات عالمية في مجال التنمية الريفية لا يمكن إغفالها؛ وعلى هذا الصعيد تتعدد الدراسات والاستراتيجيات والبرامج التي أنجزتها بعض الدول والمنظمات الدولية والإقليمية حول التنمية الريفية باعتبارها من ضمن مكوّنات برامج التنمية الشاملة في كل دولة؛ بل امتد الأمر إلى تجسيد هذه الدراسات والبرامج في إسهامات عينية وتمويلات يمكن أن نذكر من ثمراتها في السودان على سبيل المثال معهد تعليم الكبار وتنمية المجتمع بمدينة شندي (كيف حال هذا المعهد الآن)؟! وهناك سلسلة من العون الدولي لمشروعات التنمية الريفية في السودان في سبعينيات القرن الماضي أورد دكتور بلال منها: مشروع غرب السافنا، ومشروع تنمية جبل مرة، ومشروع تنمية جبال النوبة، ومشروع تنمية النيل الأزرق.. هذا عدا مشروع آخر يتخذ نهجاً مختلفاً ويأتي في سياق مشروعات يتم توجيهها لمناطق مُختارة يرعاها ويموّلها برنامج الأمم المتحدة للتنمية؛ وقد توقّف مشروع المناطق المُختارة هذا في عام 2001 لأن نظام الإنقاذ الشمولي كان مشغولاً بتقتيل السكان لا بتنمية مناطقهم..وكان غارقاً في الفساد بحيث جعل موارد الدولة وقفاً على حماية نظامه، وامتنع عن توفير المكوّن المحلي فتوقفت المشروعات وتعطّل دولاب تنمية هذه المناطق مما زاد من أوار النزاعات وضراوة الصراعات الأهلية..وأصبحت (المناطق المُختارة للتنمية) هي المناطق التي اختارها النظام ساحةً لحروبه العبثية..!!