الخميس, أبريل 18, 2024
مقالات

دعوات المصالحة مع الإسلاميين في الفترة الإنتقالية

بقلم: محمد بدوي
المراقب للمشهد السوداني الراهن يقف على تجدد دعوات المصالحة مع الإسلاميين السودانيين، وقبل الخوض في ذلك لابد من الإشارة إلى أن التمهيد لتلك الخطوات بدأت منذ فبراير 2019 بعد أن كشف إتساع نطاق الإحتجاجات السلمية جدية الشارع السوداني في التغيير بما أجبر العديد من وسائل الإعلام الأجنبية على تغيير مواقفها من مقاطعة التغطية للحالة، هذا فضلا عن التأثير الخلاق لهتافات الإحتجاجات التي ترددت داخل المحيط الإجتماعي لقادة التنظيم السابق لتكسر (عظم ظهر لحس الكوع) التي ظل يتشبث بها قادتها لإبقاء السلطة، لتكشف وسائل الإعلام عن خطة قادها بعض قادة الإسلاميين السودانيين من خلفيات مختلفة هدفت إلى شق صف الشارع عبر بث خطابات الكراهية ومخاطبة المصالح التاريخية المكتسبة لبعض الفئات، إلى جانب خطابات أخرى حاولت التمهيد لإيجاد موطء قدم للإسلاميين في حال حتمية فقدانهم السلطة وتلخصت في دعوات قبول الآخر إستناداً على أن قلة من الإسلاميين ممن إرتبطوا بالفساد بينما الغالب منهم خارج دائرتها، العديد من أشكال الخطاب وظف في سياق الحملة ولا سيما حينما كشف تلاحم الشارع عن غربة الإسلاميين السودانيين عن الواقع الذي عبثوا بإنسانه وموارده وسيادته، فعملوا على محاولات لإختبار المآلات فحملوا بعض هتافات الثورة حرفية الرغبة لتبرير أن الأمر مقصود به الإقصاء غير العادل، إستمرت الحملة عقب سقوط نظام الحركة الإسلامية السودانية وأجنحتها السياسية بعدة أشكال، حيث إعلامياً برز في التركيز على مهاجمة سياسات رئيس وزراء التغيير ووصمها بالفشل فيما ظل الغرض يغض الطرف عن طبيعة الحالة المرتبطة بالشراكة المدنية العسكرية، في تطور لاحق أخذت الحملة منحى الدعوة للمصالحة السياسية من قبل الإسلاميين، شاركهم فيها لاحقاً بعض قادة حركات الكفاح المسلحة من الموقعين على إتفاق سلام السودان 2020، بعض قادة قوى الحرية والتغيير وخارج ذلك ممن هم في خانة الساسة والمفكرين ساندوا تلك الدعوات إنطلاقاً من مبررات مختلفة، لعل النقطة التي تجدر الإشارة إليها أن كل تلك الحملات كشفت أولى مكاسب التغيير السياسي في كفالة الحق في التعبير.
لعل دعوات المصالحة المتكررة والمتعددة إشتركت في طرحها وبصورة متعمدة تغييب العدالة والمحاسبة، وهو أمر يتسق وطبيعتها لأنها في تقديري تمثل دعوات ذات طبيعة سياسية مما جعلها تولد ميتة في مهدها لتعارضها مع طبيعة الحالة التي مرت بها الدولة السودانية خلال العهد السياسي السابق من تراجع للدرجة التي تطابقت فيها فكرة الدولة مع التنظيم الحاكم، نتاج للممارسة التي استندت على فلسفة تديين الدولة وفقاً لمنفستو السلطة الحاكمة بعد العبث وتغييب العلاقة الدستورية وفقاً للفقه الدستوري، المصلحة العامة تتطلب التعامل الجاد والعلمي والمضبوط مع الحالة فالدول التي تعبر من مراحل سياسية طويلة ومظلمة وحرجة تتطلب تطبيق مكنزمات العدالة الإنتقالية من أجل المصلحة العامة لأنها تعمل على معالجة ملفات المحاسبة بما تشمل العدالة والعدالة الجنائية معاً، جبر الضرر، ابراء الجراح والتعويض بالإضافة الى الإصلاح المؤسسي الذي يعيد الفصل بين السلطات وإحترام العلاقة الدستورية وترسيخ المواطنة ويمهد لمسرح آمن لمكامن القوة المرتبطة بقوة التنوع اذا نظرنا إلى الأمر قريباً من السودان كحالة مرتبطة بالمقال لذا طرح المصالحة السياسة في ظل هذا الوضع والتوقيت يتعارض والمصلحة العامة المرجوة من الفترة الإنتقالية لأنها تمثل قفز فوق المراحل بحرمان الدولة والشارع من التعافي والعبور إلى ما بعد ذلك من رفاهية، تطبيق حزم العدالة الإنتقالية ستعزز مناعة المناخ الإيجابي الذي تمارس فيه الحقوق، في تقديري ان النظر إلى تواتر تلك الدعوات للمصالحة السياسية تكشف عمق الحوجة للعدالة الإنتقالية، ولا سيما أن مظاهر الممارسة المرتبطة بالسلطة السابقة ظلت تكشف غياب حسن النوايا قولاً و ممارسة و لا نحتاج للتذكير بالسجل الواسع لكن تكفي الإشارة إلى محاولة إغتيال رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك وواقعة ضبط الخلية الإرهابية بضاحية الطائف بالخرطوم و…..، المصالحة ليست خطاب عاطفي أو علاقة جودية بين طرفين يمكن رفضها أو قبولها بل هي تتحقق بتوافر شروطها، فقدان الثقة بين الشارع والإسلاميين السودانيين أمر لا يحتاج إلى جهد فقد فشلت حتى الجهود والمحاولات التي ظلت حتى قبل سقوط النظام بوقت قليل من إقناعهم بالمغادرة، بل ظلوا يواجهونها بالصلف وفتاوى علماء السلطان مما يجعل التعامل والنظر إلى المصلحة تستند على ذاكرة إيجابية مرتبطة بالمواقف الإيجابية والمبدئية على قاعدة إحترام الكرامة الإنسانية، مع تجدد الدعوات للمصالحة يتطلب الأمر محاولة لتقصي الأسباب الدافعة ولكن لا يتأتى ذلك دون تتبع التطورات التي حملتها فترة العامين من التغيير التي كشفت المشهد لمزيد من الرؤية وفي ذات السياق قد تجيب ولو نسبياً على أسباب العودة لمنصة الترويج للمصالحة، في تقديري يبدأ الأمر بسؤال حول من هم الإسلاميين محل الدعوات للمصالحة؟، وهل يمثلون كتلة واحدة متجانسة تجاه الأمر؟، الإجابة تستند في تقديري على ما حملته حديثاً وسائل الإعلام حول محاولات النظام السابق في تنظيم صفوفه عبر مؤتمرات خلال شهر يونيو 2021، فقد كشفت أن القوم مشغولون بإفشال الفترة الإنتقالية.
من ناحية ثانية الراصد لمحتوى تلك الحملات الإعلامية يدرك انها لا تزال في مربع إقصاء الآخر فهي تغفل تماماً القوة الذاتية للشارع للدرجة التي صار فيها مصطلح الدولة العميقة يتردد دون إنتباه حتى من بعض قوى التغيير في صيغة قد تكسب النظام السابق قوة معنوية لمواصلة تكتيكاته السياسية، فهناك عدة عوامل يجدر الإنتباه إليها في سياق الأمر، أولها تجربة الدولة السودانية والمقاومة تاريخياً تعبر عن أنها دولة قديمة في إرتباطها مع التطلع للديمقراطية، إلى جانب العوامل الخارجية جميعها تسند التغيير وانفصل عراها بشكل كبير في مساندة النظام السابق، لكن الأهم هو النظام السابق ليس وحدة مترابطة كما يتم النظر إليه من الخارج ويمكن استعراض ذلك في نموذج واحد مرتبطة بالتطورات التي قادت إلى ذلك في سياق الصراعات داخل التنظيم لكي نجيب على تلك الدعوات السياسية.
فقد شكلت الفترة بعد 2013 منعطف تاريخي في مسيرة السلطة الحاكمة في السودان، التحول من معسكر التحالف مع جمهورية إيران إلى معسكر التحالف العربي، الإدارة الأمريكية للتفاوض حول العقوبات الإقتصادية، استندت على الأثر الذي خلفه الصراع داخل حزب المؤتمر الوطني المحلول والذي أخذ منحنى إقصاء بعض قادة الصف الأول من المتشددين وذوي النفوذ التاريخي أمنياً وسياسياً إلى خارج الجهاز التنفيذي والتأثير السياسي في القرارات بدأ من صلاح الدين عبدالله الشهير بقوش الدكتور غازي صلاح الدين، الأستاذ علي عثمان محمد طه، الدكتور نافع علي نافع، الدكتور كمال عبداللطيف وآخرين، هذا التحول انعكس على اضعاف نقاط القوة التي ظل يتستر خلفها التنظيم الذي يعتمد خطابين داخلي مرتبط بقدراته على القمع وعدم المبالاة بأي قرارات دولية وخارجي مختلف معتمد على إمتلاكه قدرات واسعة فيما يتعلق بالمعلومات والتواصل مع المجموعات الأصولية في محيط الشمال والقرن الإفريقي، بالإضافة إلى الشرق الأوسط، الأمر الذي جعل بعض الدول ولا سيما الغربية تنظر إليه كحليف يمكن الإستفادة منه استخباراتيا، الأمر الذي استطاعت الخرطوم عبره كسب الجهود المؤثرة من الدول الغربية بالضغط على تحالفات المعارضة بشقيها المسلح والمدني في قبول التغيير وفق نسخة المشاركة في السلطة دون أن يلامس ذلك تفكيك نظام الخرطوم.
التغيير الذي افرزه الصراع داخل الحزب الحاكم والحركة الإسلامية قاد الى صعود قادة أضعف تاريخيا في صفوف التنظيم حيث تولى الدكتور إبراهيم غندور وزارة الخارجية عقب 24 عاماً من التعامل مع تجربة داخلية مختلفة ارتبطت بالنقابات، والفريق محمد عطا المولى عباس مدير جهاز الامن الاسبق الذي ركز على جهاز الأمن المرتبط بإستخدام القوة والعنف والتعذيب، فيما غيب تجربة العمل الإستخباراتي التي إعتمد عليها سلفه ممن أداروا الجهاز، فرسخ لفترة شهدت إنتهاكات واسعة ونمطية أعادت سجل الإنتهاكات بشكل أجبر المجتمع الدولي إلى إعادة النظر حولها بقلق، بالإضافة إلى الفريق طه عثمان الحسين الذي تمكن من إدارة العديد من الملفات بشكل منفرد غيب تجربة الإسلاميين في التنسيق وتوحيد القرارات اعلاميا وإن اختلفوا داخليا.
الرئيس الأسبق عمر البشير شكل الحلقة الأضعف في المشهد حيث بدا الإنتباه إلى خطورة وضعه عقب قرار المحكمة الجنائية الدولية في 2009 أي بعد أكثر من عقد من جلوسه في كرسي السلطة، لينعكس ذلك في ردة فعله التي كشفت عن حالة فقدان الثقة في التنظيم، فحاول السيطرة على مفاصل الحالة لكن خلفياتها التاريخية المرتبطة بالعلاقات الخارجية، وتعدد الملفات الداخلية المرتبطة بالصراعات المسلحة، تراجع الحالة الإقتصادية، فشله في الحصول على الوعود الدولية من جراء الإنفصال السلمي للجنوب، كانت أكبر من قدراته في إدارتها إلى جانب إدارة الصراع داخل التنظيم الحاكم، فاتسع نطاق التصريحات التي كشفت عن كونها ردود فعل لحالة حيرة وغياب التخطيط السياسي.
تراجع الحالة الصحية للرئيس البشير آنذاك ظل الإهتمام ينصب حول جانبها العضوي، مع اغفال للجانب النفسي الذي عبر في تقديري عن حالة اكتئاب تمظهر في الثقة لأفراد الأسرة او من ربطتهم علاقة بها والمقربين ممن وضعوا أنفسهم في خانه افراد الأسرة بالولاء التاريخي، وهي ما تعبر عن مرحلة تعرف بالاحتراق في سياق الإكتئاب، فوصل الامر إلى وضع هؤلاء الموثوقين في رئاسة أو مراقبة الوفود الخارجية، فعلى سبيل المثال غاب الدكتور عبد المنعم عثمان محمد طه من رئاسة الوفد الحكومي لجلسات مفوضية حقوق الإنسان واستبداله بمن يثق ويشرف عليهم شقيقه عبدالله البشير، كما ظهر عبدالله البشير لإدارة الوفد الحكومي بجلسات حقوق الإنسان بجنيف، وطه الحسين في ملف العقوبات الإقتصادية، وتمثيل الدولة في المؤتمر بالمملكة العربية السعودية في 2017، هذا إلى جانب أهل الثقة الذين بلغ بهم الحال بتولي مهام قيادة بعض رحلات البشير الجوية الخارجية وآخرين في دوائر مقربة في مهام تنسيق الترويح استمر الحال مع تصاعد فشل التنظيم في الكشف عن كفاءات مؤهلة لإدارة الأزمات مثل الحالة الإقتصادية، ليشكل العامل النفسي محفز لإدارة بديلة للحالة بطريقة أمنية ليعود صلاح قوش المثقل بجراح 2013 التي تلت اتهامه بالمشاركة في محاولة انقلابية فاشلة، الذي اصطدم بأن النهج الأمني للتدخل في الفساد يدور وينتهي بوكلاء ومقربين ليسوا ببعيدين من دائرة الرئيس، فيبدوا ان قوش قرر في وقت مبكر من 2018 بإستحالة تقدمه في الأمر وفي ذاك الوقت تشابكات الواقع وتطوراته التي حملت حلف طه عثمان الحسين إلى لاعب في العلاقات الخارجية يصعب معه تحجيمه لارتباطها بملف حرب اليمن والتعامل في مورد الذهب، لتدخل الحالة النفسية للبشير للاكتئاب مرحلتها التي جعلت من البشير يسلك العنف اللفظي مع قيادات الإسلاميين الذين تقدموا بمذكرة لتنحيه في 2018 (بلوها وأشربوا مويتها)، ليواجه قادة الصف الأول من التنظيم صعوبة في لقاء البشير في الربع الثالث من ديسمبر 2018، فيما اقتصر الأمر على لقاءات مسهلي الترويح والذين يثق فيهم من الأصدقاء خارج التنظيم، بعودة قوش للمشهد أخذ الصراع المنحى الرباعي مضافاً الى اضلاع الصراع مع (قادة التنظيم، حلف طه عثمان الحسين، الأزمة الإقتصادية) لينتهي الأمر بسقوط البشير بعد صعوده إلى سريره لنوم هادئ عقب اجتماعه مع بعض الجنرالات بالدولة وهو يأمل بالغد الذي يفض فيه الإعتصام، هذه هي الخلاصة التي يجدر النظر إليها في طبيعة علاقة الإسلاميين مع إدارة الدولة بما يشمل إنسانها ومواردها، أما الدولة بمفهوم التغيير فهي تشمل الكرامة والدستور والمحافظة على سيادتها واراضيها وتكفل المشاركة السياسية العادلة واحترام المحيط الإقليمي والدولي و تعزيز الأمن والسلم الدوليين.
اخيرا: لابد من التمييز بين المصالحة السياسية والمصالحة المرتبطة بمفهوم العدالة الإنتقالية التي توفرت ادواتها النسبية بالنص عليها في الوثيقة الدستورية وإجازة قانونها مما يجعلنا نعيد القول بأن الأمر ليس رهين الرغبات بل يتم في سياق مصلحة الدولة، ومدى توافر شروطها فتكفي الاشارة إلى أن الفترة الإنتقالية الراهنة كشفت عن عدة محاولات لإجهاضها ولا سيما الراصد قد يقف على أن هنالك حتى الآن أكثر من أربعة مجموعات من الإسلاميين السودانيين المرتبطين بالنظام السابق يتبارون في الفشل لإستنهاض مبادرات مختلفة لإعادة تنظيم لتجسير إعادة العلاقة بالسلطة، فالنظر إلى تعزيز قوة التغيير واستصحاب علاقة السودان التاريخية والتغيير قد يحفز على المضي للأمام من أجل دولة المواطنة وسيادة حكم القانون والعيش الآمن الكريم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *