قصة قصيرة.. ذاكرة الثورة والمطر

بقلم: محمد بدوي

ارتفع صوت الرصاص في ذاك النهار الصيفي ملعلعاً كيفما أراد له مزاج الجنود الذين يضغطون على الزناد منفرداً، وحين يثقلون سباباتهم عليها لتتساقط أغلفة الرصاص على الأرض في تتابع يزيد إرتطامها من وهن ذرات الرمال التي إحتضنت دماء الشهداء في أسى ونواح، استدعت رباط جأشها فأكتست ملامح وجهها الأسمر بتقاطيعه الدقيقة كنبتة نعناع تداعب ما سقطت عليها من أشعة شمس لا تزال تغازل الصباح الحضور البهي، بينها وسنون العمر ما تناقص بثلاثة أعوام من عمر السلطة المستبدة التي أسقطهتها ثورة الشعب بعد ثلاثة عقود ،كفيها كانتا توحي بأنهما لا تصلحان الإ للإمساك بريشة تلوين أو مبضع يعرف يضمد الجراح في مهارة و إقتدار و يجبر الوجع أن يتئد على مهل ، أنهم يبيعون الكراهية في سوق الثورة ،على أرصفتها افترشوا العبارات تحت سمع وبصر السماء ، يا لشارع الثورة الذي عمدته الهتافات التي ارتقت لتعانق السحاب فتضامن معها هطولا بلل شالات الصبيات وهامات الشباب الأسمر المحيا، فأبطل مفعول الغاز المسيل للدموع الذي إستهدف ذرات الأوكسجين بسم النترات، كأنه كان حلماً داعب الذاكرة بالإنعتاق ثم توارى ليطل زبد الزيف سارحاً كالطحالب في كل الأمكنة.

سرحت حتى كادت ان تصطدم باب غرفة العمليات الصغيرة، وهي تخطو للخارج نحو ردهة إزدحمت بالمصابين بالبارود وسياط من خراطيم المياه السميكة التي يحملها العسس، من هول الضرب المبرح جفت دماء ضحياه لتختلط بلونه الأسود كبصمة شاهدة على فعلتهم، تبت يداهم التي امتدت الى ذاك الرجل الخمسيني الذي كان على طاولة العملية الصغيرة وظهره ملطخ بدماء بعد تمزق جلبابه الأبيض، يا بلدي يا حبوب جلابية وتوب، نغمة انطلقت من هتاف صبي لم يبلغ للحلم عمراً، لكنه بلغ سن رشد النضال كما اشارت بياناته على قائمة المصابين، كان قد تناسى ألمه وانطلق يجبر صوته طبيعة هادئة ليرد مطمنئا من كان على الطرف الآخر، كان يبدو انه يعد الإجابة على سؤال محدثه بإجابات تحمل زهو النصر (العساكر طردناهم) والله فتحوا عديل، ايوه كسرنا الحنك عبورا نحو القصر، لا.. لا ما حصلت حاجة لعيني، رجعنا البمبان اتجاهم، لا لا ما جاي البيت هسي، قدام بس، انتهت المكالمة!

تقدمت اكثر نحو الباب الخارجي للمستشفى، نظرت إلى ساعة في معصمها الأيمن، فيسراها هي التي اختارت ان تبدأ حروف الكتابة منذ التحاقها بالمدرسة، فصارت الكف الرئيسية لإنجاز المهام وفي علاقتها بالأشياء من حولها، باءت محاولات والدتها بالفشل حينما حاولت ترسيم العلاقة بإعادة النشاط إلى اليد الأخرى عطفاً على محمول ديني يجعل من الشيطان شريك في الطعام، ويرفع الرحمة عن ما أنجز باليسار، كانت تضحك على طريقتها الخاصة فضحكتها تمارسها مقلتيها وتشاركها ابتسامتها التي ترتسم على نسق يطابق ما تبقى من فرح معتق في الوجدان كلما تذكرت تلك الحوارات بينها وبين شقيقها الذي يكبرها بعدة اعوام حينما يتعمد اغاظتها لأنها تستخدم يدها اليسرى فذاك هو سبب كسرها المتكرر للأواني الزجاجية بالمطبخ، فتقابل جدتها التي تسمع الحديث بالرد ما الشيطان بيدفرها، فتهمهم يميناً خبرناه في عسفه طيلة ثلاثين عاماً وهاهو اليسار يضمد الجراح ويخط رسائل أنيقة لغتها حرية، سلام وعدالة -والقلب ينبض باليسار- كانت التاسعة مساء فقد مضت اربعة وعشرون ساعة منذ وطأها المستشفى في الليلة السابقة، طوت مريلتها الطبية البيضاء ووضعتها داخل حقيبة يدها الجلدية التي حملتها لتناسق حذائها الذي قاسمها اللون فيما ظل بنطالها الأسود يعيد الانتماء الى بلوزتها في سواد تنازل عن بعض صبغته للأبيض، فدلف اللون الرمادي إلى حيز في محيط لونه، بينها والأناقة نمط من البساطة كمزاج قاطفة ورد تدربت اصابعها على معانقة البتلات اللائي لم يخبرن معانقة الفراشات في موسم التلاقح بعد، نظرت على عجل الى الرسائل التي امتلأت بها هاتفها الجوال، كانت هنالك سبع مكالمات لم ترد عليها لأنها وضعته في وضع صامت، عادت مسرعة إلى الداخل وهاتفها قرب اذنها اليسرى ونغمته ترن بعد أن اختارت إعادة الإتصال بذاك الرقم الذي عرفته، فإحدى الرسائل كانت منه أيضا، ضغطت على ذر إنهاء المكالمة فقد كانت حينها قد وصلت إلى غرفة العملية الصغيرة رقم ٣، قبل ان تهم بالحديث إلى زمليها الطبيب الذي كان قد طلب من الشخص المستلقى على طاولة العملية الصغيرة النهوض، قائلا كده انتهينا من الإصابة على الوجه الجرح خيطناه بغرزتين، خليني اخيط الجرح التاني على ساعدك الأيسر، تقدمت نحو الطاولة، حيت الطبيب في جزع ثم سألته سبب الإصابة شنو؟ رصاص؟ لم تمهله ليجيب، ادرك جزعها قائلاً لا يبدو انها بعصي حديدية أو أداة صلبة أخرى، ثم اردف هل تعرفينه، هزت رأسها وهي تنظر نحوه أي، لم تضيف استأذنت الطبيب ان تتولى تقطيب جرح الساعد، فطبت منه بعد ان تحاشت ان تتحدث اليه لتدفع بعاطفتها بعيد وتلبس مريلتها الطبية وتلبس وجهها جدية مهنية ثم بدأت في تقطيب جرح ساعده الأيسر بيسراها، إنتهت بعد ثلاثة عشر دقيقة، كان يراقبها وكأنها لا تغرز شيئا في جسده بل تدلكه برفق فمهارتها مثل عزف منفرد محترف على البيانو نوتته الموسيقية حملت ترجمة باذخة لـ(تطق طق تطق، تسقط بس،ت طق طق تطق طق، سلمية).

ثم طاف بعدها (جايين راجعين يوم ثلاثين).

شكرت زمليها الطبيب ثم اضافت انه شقيقي الذي يكبرني، ثم طلبت منه ان ينهض ليتبعها إلى الصالة الخارجية حيث طلبت منه الإنتظار ريثما تحصل على بعض المضادات الحيوية من الصيدلية، عادت لتسطحبه إلى المغادرة، عبرا باب المستشفى الخارجى بعد أن أعادت مريلتها بعد طويها إلى الحقيبة البنية المتدلية على كتفها، تناولت جرعتي ماء كانتا قد تبقيتا في قارورة المياه الصغيرة بداخل شنطتها ثم قذفت بها إلى سلة الأوساخ البلاستيكية، كان يسير إلى جانبها حينما التفت زميلك يده حارة في الخياطة لكن يسارك خياطته ذي لمس الحرير.

التفتت لتسكب نحوه قليلا جدا جدا من باقي الفرح أو نكهة إبتسامتها ثم أضافت في مرح لأنه الشيطان الساكن الشمال عرف أن من أصابك شيطان من المليشيات غير معترف به في مملكتهم، فقرر أن يدفع بإعتذاره عن الإصابة في حزمة رفق أسكنها يساري.

نظر إليها متفاجئاً رغم آلامه، فقد كانت تدندن (السائق الشولة حقه ملكه براه، أدينا بس نظرة يا البلوم).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *