الجمعة, أبريل 19, 2024
تقاريرسياسة

التعثر الديمقراطي في السودان.. كتاب جديد للبروفيسور عطا البطحاني (9)

الخرطوم: حسين سعد

في الحلقة التاسعة من كتاب الدكتور عطا البطحاني (التعثر الديمقراطي في السودان) تنشر (مدنية نيوز) قول البطحاني: نتلمس التجربة الديمقراطية الثالثة من العام (1986-1989) للتعرف أكثر على ديناميات التجربة الديمقراطية الثالثة، لابد من اِلقاء الضوء على المرحلة المايوية 1969- 1985 والظروف التي شكلت خلفية ما جرى عند ميلاد الديمقراطية الثالثة. هذا يستدعي الرجوع الى انقلاب مايو 1969. ففي محاولة منها لكسر جمود السياسة التقليدية وللاستفادة من توازن القوى قامت القوى السياسية الممثلة للبرجوازية الصغيرة في القوات المسلحة بتجاوز النظام البرلماني واستلام السلطة في مايو 1969م، رأت بعض شرائح اليسار إمكانية تحويل العملية العسكرية لبداية حركة شعبية تهدف للتغيير الاجتماعي الراديكالي الذي برزت بعض ملامحه في ثورة أكتوبر 1964. لا يتسع المجال لتناول أسباب وتداعيات ما حدث خلال السنوات الأولى لنظام مايو. حسم فشل انقلاب يوليو 1971 بقيادة هاشم العطا المسنود من الحزب الشيوعي الصراع مع مجموعة جعفر نميري المسنود بالضباط القوميين العرب وتحالف قوى البرجوازية الصغيرة وبيروقراطية الدولة. وبذا تطورت نسخة من انقلاب 1958، معمقة أيضاَ تناقضاتها الذاتية والموضوعية.

المصالحة الوطنية

يقول عطا إن نظام مايو 1969م لم يحدث قطيعة تامة بين التركيبة الاجتماعية لسلطتها والطبيعة الاجتماعية للنظام السابق 1964 ــ 1969م، بالرغم من اختلاف الشكل السياسي للحكم والتواترات والصدامات ما بين البرجوازية البيروقراطية الحاكمة ومجموعات مؤثرة من الرأسمالية والقوى التقليدية، الا أنه تم نوع من التداخل ما بين هذه القوة، اكتمل ذلك بالمصالحة الوطنية في 1977م التي هيأت الفرصة للإخوان المسلمين اِتقان استراتيجية برغماتية بحتة للتغلغل في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والمؤسسات المالية والاقتصادية بما يمكن القول أن هذه الفترة، قياساً بما حدث لاحقاً، شكلت مرحلة مفصلية في تاريخ السودان الحديث. دفع عقد الثمانينات في سنواته الأولى بقوى تقليدية ووطنية خارجة من المصالحة للدخول مع اليسار في تحالف عريض أطاح بالشكل السياسي لنظام مايو في أبريل 1985. ولكن هذا التحالف الذي أطاح بنظام مايو وأشرف على إدارة المرحلة الانتقالية عجز عن (كنس أثار مايو) و أبقى على التركيبة الاجتماعية والاقتصادية كما هي بكل ما تحمله من تبعية وارتهان لصندوق النقد الدولي واقتصاد السوق وساهم رفض الحركة الشعبية لتحرير السودان الدخول في تحالفات سياسية مع قوى الانتفاضة، ساهم في تسهيل القوى المحافظة والتقليدية ملء الفراغ السياسي، وبذلك فتح الباب واسعاً لصعود الإسلام السياسي ممثلاً في الجبهة الإسلامية القومية.

الأنشطة الطفيلية

ويقول البطحاني إنه لا غرابة في أن تأتي صيغة التمثيل البرلماني بممثلي القوى الاجتماعية التي تصالحت مع مايو، وأبرزها حركة الأخوان المسلمين التي خاضت معارك سياسية وأيديولوجية مكنتها من منافسة الحزبين الكبيرين على قيادة معسكر القوى التقليدية الدينية والقبلية والمحافظة في الريف، وأيضاً اعتمدت في نفوذها على شرائح رأسمالية المضاربات، والسمسرة والأنشطة الطفيلية، غير الانتاجية بدعم من بيروقراطية الدولة. عمل هذا التحالف التقليدي – الرأسمالي- البيروقراطي تحت قيادة الجبهة الإسلامية القومية عبر توسيع الشقة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والقوى السياسية فى الشمال، ونجح أيضاً في عزل وتضييق الخناق على تحالف ممثلي القوى الحديثة المهنية والنقابية وشرائح اليسار وممثلي القوميات المقهورة ـ والتي ساهمت في إسقاط نظام مايو ولم تجنِ ثمار نضالها، لم يكن التغيير الذي حدث عام 1985 تغييراً جوهرياً بالكيفية التي تتمناها قوى الانتفاضة، وسبب ذلك هو الوسائل التي تم بها تغيير نظام الدولة عبر تدخل كبار رتب الجيش فى اللحظات الأخيرة. وهناك من يذهب الى أن تردد هذه الرتب، بل ورفضها التدخل تم التغلب عليه من خلال ضغوط كبار تجار الاتحادي الديمقراطي الذين يتحرقون للقضاء على نظام نميري ومن الزبير رجب والمؤسسة العسكرية التي كانت تسيطر على أغلب التجارة. هذا يعطي مؤشرات أولية لطبيعة التغيير بالرغم من دور تجمع القوى الوطنية والديمقراطية (المكونة من النقابات والاتحادات المهنية والأحزاب السياسية، باستثناء الإخوان المسلمين) في قيادة الانتفاضة. وما جاء من خطوات واِجراءات لاحقاً أكدت الطبيعة المحدودة للتغيير، مثل الفشل في إلغاء قوانين سبتمبر (قوانين الشريعة)، الذي كان أهم بنود جدول أعمال التجمع الوطني. ويضاف لسوء تقديرات الأحزاب الشمالية اِدارة المرحلة الانتقالية، رفض حركة – جيش تحرير السودان المشاركة في العملية السياسية، كلها عوامل أسهمت في إضعاف التجمع الوطني الذي بدأ في تقديم التنازلات واحداً تلو الآخر للأحزاب وللجيش.

الحرب الاهلية والفساد

والأهم من هذا فإن النظام الديمقراطي التعددي الجديد لم يتمكن من خلق توافق عملي بين اقتصاد السوق والمجتمع المدني. ويبدو أن التحالف الشمالي التقليدي الحاكم المكون من حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي حاول تبني النظرة الاستراتيجية التي كانت سائدة في الستينات مع تغيير في التوافق بين القوانين السياسية والاقتصادية. وقد فشلت حكومة ما بعد جعفر النميري في إيقاف الحرب الأهلية في الجنوب، وفشلت في كبح جماح الفساد الذي استشرى على نطاق واسع وفشلت كذلك في تحجيم الأنشطة المتنامية للحركات اليمينية المتطرفة التي كانت تمثلها تنظيمات الإسلاميين. ولقد نشط اِعلام الإسلاميين ليس فقط في معاداة الحزب الشيوعي وتحرير المرأة والموقف المتشدد تجاه مشكلة الجنوب (وهي من الأمور الثابتة فى كتاب الإخوان المسلمين منذ الستينات) بل عمدوا على السخرية من قادة الأحزاب السياسية وتفننوا في اغتيال الشخصية للقيادات الطائفية بهدف اِفشال التجربة الديمقراطية.

وبحسب عطا فقد ساهمت هشاشة ميزان القوة بين التحالف الذي قاد الانتفاضة والمجلس العسكري وتردد الأخير في حسم القضايا المحورية أحدث شللاً في الإرادة السياسية للنظام الوليد واسترخاءً سياسياً عقب الانتفاضة مباشرة. وفي مايو 1985 تحرك الإخوان المسلمون لملء الفراغ السياسي الذي فتحته الحكومة الجديدة بترددها حيال إلغاء قوانين الشريعة إضافة إلى العوامل المذكورة آنفاً من خلال عقد مؤتمر دستوري. وقد تشكلت لهذا المؤتمر جبهة عريضة معارضة له من الجماعات الأصولية المشابهة والتي ضمت أيضاً جنرالات متقاعدين من الجيش ومسئولين نافذين في نظام نميري المخلوع بجانب الجبهة الإسلامية القومية، التي انتخبت قائدها حسن الترابي أميناً عاماً لهذه الجبهة الجديدة: الجبهة الإسلامية القومية، باستغلال ثرائها الذي راكمته حديثاً وباستخدام أحدث وسائل التعبئة الجماهيرية، تحركت الجبهة الإسلامية بسرعة شديدة للهيمنة على المسرح السياسي مقدمة نفسها كقيادة بديلة للجمهور السياسي في الشمال. وبدلاً من أن تكون في موقف الدفاع اتخذت الجبهة الإسلامية موقفاً هجومياً واضحاً “متحدية” أية جماعة تلغي قوانين الشريعة، ومهددة باللجوء إلى الجهاد إذا دعى الأمر.

كرت الشريعة

وقد رفعت قوانين الشريعة لمرتبة (التابو) أو الأمر المنهي الحديث عنه، كما صور الخطر الداهم الذي يحدق بالهوية العربية الإسلامية للسودان على أنه قادم من الجنوب، تحديداً من الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان وحلفائه اليساريين في الشمال. وقد خاض الإسلاميون، بقيادة الجبهة الإسلامية، خلال الفترة من 1985 إلى 1989 حرباً شعواء ضد التجمع الوطني وضد الأحزاب التقليدية. ولتحقيق أهدافها السياسية كانت الجبهة الإسلامية تعمل من خلال الآلية السياسية الديمقراطية المطروحة على الساحة السياسية، وتعمل في الوقت ذاته، وبكل ما تستطيع، على تقويض أسس الحكم الديمقراطي. فى ظل هذه الأجواء جرت الانتخابات العامة في 1986. (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *