الثلاثاء, أبريل 16, 2024
تقاريرسياسة

الصراع الأمبريالي الأطلسي الأوراسي.. بروز الثنائي اللدود (1)

| مساحة حرة |

بقلم: حاتم درديري

اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي، وعادت مشاهد الحرب العالمية الثانية في أوروبا من جديد، وبلا شك فلقد خالفت موسكو الأعراف الدولية بغزوها لأوكرانيا، وهو ما قامت به أمريكا أيضاً عندما غزت لأفغانستان والعراق.

تبادلت الولايات المتحدة وروسيا الاتهامات بخرق القوانين الدولية، والسعي للهيمنة على العالم، وإثارة الفوضى فيه.

في سلسلتنا التي اخترنا له عنوان “الصراع الإمبريالي الأطلسي الأوراسي” سنتناول التنافس بين القوتين، والأحادية القطبية، والرفض الروسي للتمدد حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، وصراع النفوذ على اَسيا الوسطى، وصعود الصين وتأسيس منظمة “بريكس”، في حلقة اليوم سنبدأ بتناول الصراع مع تأسيس النظام الدولي الحالي.

التراجع الأوروبي وصعود القوتين

أدت الحرب العالمية الثانية إلى تغيرات عامة وشاملة جوهرية في السياسية العالمية بعد 1945، وتغير نظام دولي حكم العالم دام لخمسة قرون.

تراجعت القوة الأوروبية أقتصادياً وسياسياً، وظهرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوتين عظميين على الساحة الدولية، بسبب قوتهما العسكرية، وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، والوسائل التي تمكنهم في نقلها قارياً عبر الطيران.

بفضل قيادتهما انتصرت دول التحالف على دول المحور التي ضمت النازية والفاشية في أوروبا واليابان، وبعد النصر أعلنتا سعيهما لإرساء نظام عالمي جديد يتفق مع قيمها الرأسمالية والأشتراكية، وبينما دخلت الحرب مرحلتها الأخيرة تحولا إلى غريمين لينتقل النظام الدولي إلى مرحلة ما يعرف الحرب الباردة، والتي جاءت نتيجة للرؤى المتعارضة للنظام الدولي التي سعت واشنطن وموسكو لفرضها على العالم الهش الذي مزقته الحرب.

الرؤية الأمريكية

خرجت أمريكا من حطام الحرب العالمية الثانية بخسائر متواضعة، وعبر الرئيس المنتخب حديثًا هاري ترومان عن الواقع بثقة بأنهم خرجوا من الحرب كأقوى أمة في العالم أقتصادياً وعسكرياً ومكانة دولية.

استقى الاستراتيجيون الأمريكيون عددًا من الدروس من الهجوم الياباني الجريء، في رسم السياسة الخارجية المستقبلية؛ أولًا: صاروا مقتنعين بأن التكنولوجيا، خاصة القوة الجوية، قلصت الكرة الأرضية لدرجة لم يعد معها الساتر الأمريكي المتمثل في المحيطين قادرًا على توفير الحماية الكافية من الهجوم الخارجي، وخاصة بعد هجوم اليابان على بيرل هاربر خلال الحرب.

أعتبروا الأمن الحقيقي يتطلب البدء بالدفاع بعيدًا عن السواحل الأمريكية عسكريا، وقامت بنشر قواتها وتأسيس قواعد عسكرية في قارات العالم، وذلك لردع أي أعداء مستقبليين ينوون مهاجمة الأراضي الأمريكية.

أصرت إدارتا روزفلت وترومان على الحفاظ على القوات الجوية والبحرية في أفضل حالة ممكنة؛ فتحقق لها حضور عسكري قوي في المحيط الهادي.

واتفقا على عدم السماح لأي دولة معادية أو تحالف من الدول بالسيطرة الغالبة على شعوب وأراضي وموارد أوروبا وشرق ووسط آسيا، والتي تشكل المنطقة المركزية لأوراسيا، كما يحلو للجيو سياسيين (خبراء الجغرافيا السياسية) تسميتها، واعتبروها أعظم مغانم العالم الاستراتيجية والاقتصادية، والتواجد العسكري الأمريكي يمنحها نقطة ارتكاز القوة العالمية.

الرؤى السوفييتية

جاءت رؤية روسيا السوفييتية للنظام الجديد وليد لمخاوف أمنية متأصلة، وكما هو للولايات المتحدة، والتي كان لها أسس تاريخية وثقافية وأيديولوجية.

كانت ذكرى هجوم ألمانيا النازية بقيادة هتلر للسيطرة على الأراضي السوفييتية في يونيو ١٩٤١ لا تزال ماثلة في الأذهان، وكان لها وقع أبشع من ذكريات الأمريكيين في هجوم بيرل هاربر، وعانت الخسائر الرهيبة.

احتل الألمان خلال الحرب 9 من الجمهوريات الـ 15 التي تشكل الاتحاد السوفييتي سواء بشكل كلي أو جزئي، ودُمرت ١٧٠٠ مدينة وبلدة، وأكثر من ٧٠ ألف قرية، و ٣١ ألف مصنع، ودُمر السواد الأعظم من مدينة لينينغراد (سان بطرسبورغ حالياً).

كما أشاع الغزو النازي الخراب في قاعدة الدولة الزراعية، ودمر ملايين الأفدنة من المحاصيل، ونفوق عشرات الملايين من المواشي ، ولتغرس في القيادة السوفييتية هوسًا بضمان حماية وطنهم من أي انتهاكات مستقبلية.

الاتساع الجغرافي الهائل للاتحاد السوفييتي الذي كان يغطي سدس مساحة اليابسة بالكرة الأرضية، وتعادل مساحته ثلاثة أضعاف مساحة الولايات المتحدة، وتشكل روسيا من إقليمين هما الأوروبية وسيبيريا (أوراسيا) الهوية السياسية لها، واللتان تقعان في أقصى طرفي الدولة، وكلتاهما أظهرت في الماضي القريب ضعفًا بالغًا أمام أي هجوم.

تقع روسيا الأوروبية قبالة بولندا ، والتي كانت طريق الغزو الفرنسي بقيادة نابليون و ألمانيا بقيادة هتلر بكل سهولة في الماضي، أما روسيا السيبيرية فقد تعرضت للغزو الياباني مرتين، وعلاوة على ذلك لسيبيريا حدود برية طويلة مع الصين.

أعتبر الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين بولندا بأنها كانت بمثابة البوابة لغزو بلاده، وقال للرئيس الأمريكي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل بأن شعبيهما لم يمرا بمثل هذه الغزوات الألمانية، وأنه لن يسمح بتكرار أن يكون موقع بولندا أو غيرها قاعدة لغزو بلادها، ولن ينتظر حتى تشكل جديد خطراً.

لهذ قام ستالين بتنصيب حكومات مذعنة ومؤيدة لموسكو في بولندا، وغيرها من دول شرق أوروبا المحورية، ومد الحدود السوفييتية إلى أقصى مدى لها قبل الثورة البلشفية 1917، وهو ما يعني ضم دول بحر البلطيق.

كان الهدف هو كبح جماح ألمانيا، وإخضاعها لنظام احتلال قاسٍ، وإلزامها بتقديم تعويضات شاملة، وراهن ستالين بأن يسبب التواجد العسكري السوفيتي بألمانيا الشرقية بأن يوحدها ويفصلها تماماً عن الغرب.

في ظل الخسائر الرهيبة في الطاقة البشرية والموارد والقدرة الصناعية لألمانيا بسبب الحرب، فأن من شأن أي صراع مبكر لأوانه لموسكو مع واشنطون ولندن أن يضعها في موقف ضعف شديد، خاصة بعد أن أظهرت الولايات المتحدة قدراتها الذرية في أغسطس 1945.

كانت موسكو تسعى لأن يُنظر إليها كقوة محترمة مسئولة بعد أن ظلت منبوذًا لفترة طويلة قبل الحرب، وللحصول على احترام الدول الغربية الرأسمالية التي كانت تحتقر ايديولوجيته الاشتراكية.

لم تكن تريد الاحترام وحسب، بل كانت مصرة على أن يكون لها صوت مساوٍ في المجالس الدولية، والأهم الحصول على اعتراف غربي رسمي بحدودها المتوسعة أو على الأقل الإذعان لمجال نفوذهم البازغ في أوروبا الشرقية.

أثرت الأيديولوجية الماركسية اللينينية على تطلعات وسياسات ستالين وكبار الحزب الشيوعي السوفيتي، فالإيمان المترسخ بتعاليم ماركس ولينين بثت فيهم إيماناً عقائديٍّا بالمستقبل، وإحساسًا مطمئنًا بالثقة في أنه بصرف النظر عن الأوضاع تواجهها موسكو بعد الحرب ، فأنه على المدى القصير سيقف التاريخ إلى جوار قوى ثورة الطبقة العاملة العالمية، ولذلك أعتبرت صفوة الكرملين أن الصراع بين الاشتراكية الرأسمالية أمر حتمي.

نهاية زواج المصلحة

حمل المؤرخ الأمريكي روبرت جيه ماكمان في كتابه (الحرب الباردة) سياسة التوسع الجامح والاحتواء ؛ مسؤولية نشوب الحرب الباردة بين واشنطون موسكو، وتتسبب في التعجيل بإنهاء زواج المصلحة الكلاسيكي للتحالف الذي قام لمواجهة ألمانيا النازية.

الحرب الباردة

مصطلح الحرب الباردة استخدمه جورج أورويل في مقال له بعنوان “أنت والقنبلة الذرية” في صحيفة تربيون البريطانية، وأشار فيه بوضوح إلى التهديد النووي الذي انبثق بعد الحرب خاصة، وحذر من ما اسماه السلام من دون سلام، وأطلق مصطلح الحرب الباردة على الصراع الأيديولوجي بين السوفيت والأمريكيين.

الهيمنة والتوسع والاحتواء

قامت الولايات المتحدة فلقد بتأسيس حلف عسكري تحت اسم حلف شمال الأطلسي ومقره بلجيكا عام 1949، وضمت فيه دول أوروبا الغربية ( بريطانيا – فرنسا – إيطاليا – ألمانيا الغربية – بلجيكا – هولندا ) بالإضافة إلى ( كندا – اليونان – وإيسلنده)، وكان الهدف هو منع التوغل الشيوعي لأوروبا.

بينما رد الإتحاد السوفيتي بتأسيس حلف وارسو عام 1955، ومقره بولندا بقيادته وضم ( تشيكوسلوفاكيا – المجر – ألمانيا الشرقية – بولندا – رومانيا – بلغاريا) لمواجهة حلف شمال الأطلسي.

وبسبب التسابق الأمريكي السوفيتي نحو الهيمنة والتوسع، أندلعت ما عرف بأزمات الحرب الباردة في مختلف قارات العالم، وكان أبرزها:

أزمة برلين

مرت على فترتين الأولى كانت في عامي 1948 – 1949، وسببها اتفاق المعسكر الغربي على اقامة دولة رأسمالية في ألمانيا الغربية ما أثار غضب موسكو التي لجأت إلى محاصرة جميع الطرق البرية والنهرية المؤدية إلى برلين الغربية، وقطع الغاز والكهرباء و الماء عنهما عليها ما جعل الحلفاء يقيمون جسرا جويا لتفكيك الحصار، وتم تقسيم ألمانيا إلى غربية موالي لحلف الأطلسي وشرقية موالية لحلف وارسو.

الثانية كانت في أعوام 1958 – 1961 بعد الازمة الأولى، وبسبب تقسيم الألمانياتين، فحدث اختلاف وتفاوت كبير بينهما بسبب التطور الكبير الذي عرفته ألمانيا الغربية ما جعل سكان ألمانيا الشرقية خاصة الشباب يهربون اليها، فقررت سلطات ألمانيا الشرقية بناء جدار برلين عام 1961 لوقف تلك الهجرة.

الحرب الكورية 1950 – 1953

حاولت القوتان في إطار سياسة ملء الفراغ الذي تركته اليابان في شبة الجزيرة الكورية بعد استعمارها لها، فتركز الوجود السوفياتي في الشمال وجعله شيوعيا ، بينما سيطرت أمريكا على الجزء الجنوبي وجعلته رأسمالياً، ولما أرادت موسكو نشر الشيوعية في كامل كوريا تصدت لها واشنطون، و لتندلع الحرب الأهلية الكورية بسببها، واستمرت 3 سنوات، وانتهت بتقسيم كوريا إلى شمالية شيوعية وجنوبية رأسمالية يفصل بينهما خط عرض 38 درجة بعد تدخل الأمم المتحدة التي فرضت على الكوريتين توقيع هدنة لا زالت سارية حتى اليوم منذ ذلك التاريخ.

أزمة الصواريخ الكوبية 1962 – 1963

في اكتوبر 1962 حلقت طائرات تجسسية أمريكية فوق سماء كوبا وبالصدفة اكتشفت موقعا لصواريخ نوويةسوفيتية، فأقدمت على محاصرة الجزيرة، وطالبت من الاتحاد السوفياتي بسحب أسلحته

وبعد أيام من المفاوضات سحبت موسكو صواريخها، مقابل امتناعها عن التدخل في شؤون كوبا الداخلية، ووقف حملات الإطاحة بالنظام الشيوعي بقيادة فيديل كاسترو ،والتزمت أمريكا برفع الحصار عن كوبا.

وصفت هذه الأزمة الدولية بين واشنطون وموسكو بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكادت أن تندلع بسببها حرب عالمية ثالثة وكانت حقبة الرئيس الأمريكي جون كيندي والسوفيتي خروتشوف المنتمي للقومية الأوكرانية، وبعدها انفرجت العلاقات بين القوتين لتدخل القوتان مرحلة جديدة.

عصر الوفاق 1963 – 1979

شهدت هذه الفترة من فتًرات الحرب الباردة تحسناً في العلاقات الثنائية، وكان الانفراج هو طابع العلاقات بين القطبين، وعُرِف بعصر الوفاق، وارتكزت على خمس قواعد هي : التكافؤ المتبادل، الحوار المباشر ، مراقبة التسلح، عدم التدخل في شؤون كتلتيهما الداخلية، واستمرار التنافس الأيديولوجي.

وهدفت لتلافي خطر نشوب حرب عالمية، ولكن استر الاحتكار الثنائي للقوة العظمى ، وكانت أهم المكاسب الدولية مراقبة التسلح وتحديده في العام 1963 ، والتوقيع على معاهدة تحرم التجارب النووية إلا تلك التي تجري تحت الأرض. والمعاهدة معاهدة الأخرى في العام 1967 بالاستخدام السلمي للفضاء الخارجي وعدم إجراء تدريبات عسكرية نووية فيه.

عودة التوتر

وانهار هذ الوفاق في عام 1979 بسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان، وقبله التدخل السوفيتي في حرب أوغادين بين إثيوبيا والصومال 1977، وانحيازها لإثيوبيا وأقامته لقواعد عسكرية في مصوع وعدن، وبسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان قاطعت الدول الغربية دورة الألعاب الأولمبية في موسكو 1980.

التفكك السوفيتي

في ثمانينات عرفت روسيا السوفيتية اسوأ فترة لها تمثلت في انهيارها اقتصادياً واستقلال عدد من الجمهوريات عنها، وأنهيار جدار برلين 1989، حتى تفككه عام 1991، وفي عام 1988 بشر الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بالنظام العالمي الجديد.

سنتناول في الحلقة القادمة الأهمية السياسية والإستراتيجية لأوراسيا، مساعي واشنطون وموسكو وتنافسهما للهيمنة عليها ، ودور الجغرافيا في رسم السياسة الخارجية لهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *