الصراع الإمبريالي الأطلسي الأوراسي (3)
+ الدب الروسي ينهض من سباته الشتوي
كتب: حاتم درديري
ما بعد الحقبة السوفيتية
بداية تسعينيات القرن الماضي شهد النظام الدولي تحولات عميقة، ونتج منها تشكيل نظام جديد انتقل من الثنائية القطبية إلى القطب الواحد.
مع الأوضاع الدولية الجديدة فقدت روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي مكانتها الحقيقة كقوة عظمى، فباستثناء قدرتها العسكرية، فإنها لا تملك المقومات التي تجعل منها قوة عظمى اقتصادياً وسياسياً، ، ومع هذا أصبحت قوة ضعيفة.
لكن بقيت على صورة القوة العظمى، لامتلاكها قوة عسكرية واستراتيجية الضخمة، فكيف استرجعت موقعها كقوة عظمى ذات تأثير كبير في السياسة العالمية وفي النظام الدولي؟.
لقد واجهت روسيا تحديات سياسية حول كيفية وترتيب أوضاعها الداخلية، والتراجع الاقتصادي، وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني، والنزعة الانفصالية بالشيشان، ومشكلة إعادة بناء سياستها الخارجية في ظل الضعف الداخلي مع وضع دولي تهيمن عليه أمريكا.
توازى هذا مع صعود قوى جديدة في العالم، كالاتحاد الأوروبي والصين والهند والنمور الآسيوية، ولكن كان هناك إصرار للعودة كقوة عظمى.
حقبة يلتسن المأساوية
انتقل أول رئيس لروسيا بعد الحقبة السوفيتية بوريس يلتسن من الأقتصاد الأشتراكي إلى الرأسمالي، وطبق سياسات التكيف الهيكلي التي كانت نتائجها إدخالها في أزمة اقتصادية عام 1998.
كان يلتسن يراهن بأن الانفتاح على الغرب، وتبعية روسيا له هي الطريق الأمثل، والخيار الوحيد لإنقاذ البلد من الفوضى، والحصول على القروض والمساعدات الاقتصادية والمالية، فكان طريق موسكو هو الولاء لواشنطون.
مما أدى إلى تقهقرها إقليمياً وعالمياً، وتحولها من فاعل رئيسي مؤثر في السياسة الدولية إلى مجرد مراقب رمزي للأدوار، على رغم امتلاكها القوة النووية الثانية في العالم، وحق الفيتو في مجلس الأمن، والثروات الطبيعية، وكذلك القوة العسكرية التقليدية.
ساهمت سياسات التحرير الاقتصادي ليلتسن، والتي رفع من خلالها يد الدولة عن تحديد أسعار السلع وتركها إلى آلية السوق المجحفة، وتحريرها المفاجئ والسريع دون وضع قيود محددة، لنشوء طبقة السماسرة والمافيا والطفيليية مع ارتفاع فاحش في الأسعار وخاصة أسعار المواد الضرورية.
انفجر التضخم الذي أدى بدوره لانهيار شبه كلي للاقتصاد الروسي، ونشوب أزمة مالية حادة أدت لانهيار شبه كامل للنظام المالي، وهبطت هبوط قيمة الروبل الروسية، وانخفض الضمان الاجتماعي، وأجور الموظفين والمتقاعدين.
انعكست الأوضاع سلباً على المستوى المعيشي للغالبية العظمى من السكان، والذي كان له تأثير في الانخفاض المستمر للإنتاج الصناعي والزراعي، وارتفع معدل البطالة إلى 20 مليون نسمة.
وصلت تلك إصلاحات يلتسن بعد 10 سنوات عام ٢٠٠٠ إلى طريق مسدود في كافة المجالات، وتصل روسيا معها حافة الانهيار التام كدولة ومجتمع.
القيصر الجديد
شكل صعود رئيس الوزراء الذي توج رئيساً لاحقاً على روسيا فلاديمير بوتين أو كما لقبه الروس القيصر الجديد عام 2000، بضربة البداية لإعادتها إلى مكانتها العالمية، وفتح صفحة جديدة في السياسات الداخلية والخارجية بعد توهان تسعينات القرن الماضي.
واجهت خلالها صعوبات داخلية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً بجانب الصعوبات خارجية، وكان أكبرها هيمنة أمريكا على الساحة العالمية، وعدم سماحها رفقة الغرب لروسيا بالقيام بدور مؤثر في هذه السياسة.
أدرك بوتين أهمية ضرورة استقرار الجبهة الداخلية وتداخلها بين السياستين الداخلية والخارجية، وقام بشن حرب على المافيا المالية والفساد هدفها إعادة بناء اقتصاد قوي، وتحقيق انسجام داخلي واسع يساند السياسة الخارجية الجديدة.
وحارب القيصر النزعات الانفصالية في القوقاز والشيشان، وقضى على عجز الحكومة عن تسديد الرواتب في مواعيدها، وانتشار الفقر، والبطالة.
كانت أولوية بوتين استعادة حقول النفط والغاز التي باعها يلتسن للشركات الغربية بأبخس الأثمان، وليبدأ عملية تصحيح مسار الاقتصاد، وسحب الامتيازات من الشركات المتعددة الجنسيات في مجال النفط والغاز، وحررها من المافيا.
كما بدأ برسم دوائر حمراء في الداخل والخارج، ووضع نظرة استراتيجية في للعلاقات الخارجية وبخاصة مع أمريكا، ونجح في ذلك بسبب الدعم القوي من الشعب الروسي له.
القومية الروسية
يمثل بوتين النخبة القومية الروسية التي رأت أنه حان الوقت للدفاع عن مصالح روسيا لتعود مجدداً لتصبح نداً لأمريكا، وبسبب ذلك تمت شيطنته في الدوائر الإعلامية الغربية.
اتهم الصحفي البلجيكي ميشيل كولون الولايات المتحدة مع الغرب بالسعي لتدمير لقطاع الطاقة عبر زرع عملاء له، ووضع حاكم سكير اسمه يلتسن بالكرملين، ولذلك أجرى بوتين بتغييرات هيكلية على قطاع النفط والغاز والروسي، وقام بتأميم شركاته واسترداده من الذين نهبوه ودمروها لصالح الغرب.
احتواء روسيا
مع صعود بوتين انتهجت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (2001 – 2009) سياسة القضم التدريجي للجوار الروسي، وضمت ضم دول أوروبا الشرقية والجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والإتحاد الأوروبي، وظلت موسكو تراقب انشاء مواقع متقدمة للحرب عليها بصمت شديد.
فرضت الإدارة الأمريكية في عهد بيل كلينتون إستراتيجية عدم نشوء جيش أوربي موحد ذو استراتيجية موحدة، وظهر ذلك خلال حروب البلقان في دول يوغسلافيا السابقة بقيادة حلف شمال الأطلسي، وكان الهدف من ذلك منع قيام تحالف بين ألمانيا وروسيا، وبالتأكيد كل هذا ينصب لحرب واشنطون على موسكو.
التوسع الأطلسي
وافق آخر رئيس لحقبة روسيا السوفيتية ميخائيل غورباتشوف على منح جمهوريات الإتحاد السوفيتي الإستقلال، أشترط في المقابل عدم ضمها لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي مع دول حلف وارسو، ولكن لم يلتزم الغرب به.
في عام 1999 ضم حلف شمال الأطلسي (بولندا “دولة المقر السابق لحلف وارسو” – التشيك – المجر)، وفي 2004 تبعها كلا من (بلغاريا – استونيا – لاتفيا – ليتوانيا ورومانيا – سلوفاكيا – سلوفينيا) وفي عام 2009 ( ألبانيا – كرواتيا) إلى الحلف.
يرى المفكر دوغين أن غرض التواجد الأمريكي في أوروبا الغربية التي يعتبرها المنطقة الساحلية الغربية لأوراسيا هو فرضها لحلف شمال الأطلسي، ومع التوسع بضم دول جديدة، وانشاء حدود تعزل روسيا عن أوروبا لتحد من تأثيرها ونفوذها.
تغيرات دراماتيكية
وقعت تغييرات في أوروبا الشرقية تمثلت في حرب البلقان، وأدت لتفتيت يوغسلافيا خلال تسعينات القرن الماضي إلى دول (كرواتيا – البوسنة والهرسك – وصربيا (الوريث الشرعي ليوغسلافيا) – سلوفينيا – مقدونيا – والجبل الأسود)، وشارك حلف شمال الاطلسي في جميع الحملات العسكرية، وانتهت الأحداث في البلقان بسقوط نظام مجرم الحرب الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش عام 2000 لتنشئ قاعدة عسكرية في الجزء الصربي من إقليم كوسوفو، وفي عام 2006 استقلت جمهورية الجبل الأسود عن صربيا لتنضم لحلف الناتو.
أعتبر الروس تفكك يوغسلافيا لعدة دول بمثابة تهديد لهم، وخاصة أن شعوبها من السلافيين الذين ينتمي اليهم جميع سكان أوروبا الشرقية، ومع إضعاف تأثيرها على الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري ، فلن يكون هنالك أي نفوذ روسي على أوروبا الغربية.
الثورات الملونة
عارضت الانظمة الموالية لروسيا خاصة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة الحرب على يوغسلافيا وتفكيكها، ولكن لم تصمد معارضة هذه الأنظمة لأمريكا بسبب أزماتها الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاستبداد السائد داخلها، واندلعت ثورات شعبية ضدها.
أطلق عليها الإعلام الغربي اسم الثورات الملونة، وتدعي الاوساط الأمريكية إسقاطها تلك الأنظمة عبر خلقها لمنظمات مجتمع مدني وتنظيمات سياسية تنادي بالإصلاح والتحول الديمقراطي والاطاحة بالنظم الشمولية عبر الخارجية الأمريكية والـ(سي آي ايه).
نظرت روسيا لتلك الثورات بأنها ثورات أطلسية، وليس تلك الثورات في المنطقة فحسب بل حتى ثورات الربيع العربي والثورة السودانية.
بدأت الثورات الملونة في صربيا عام 2000، وانتهت بسقوط ما تبقى من نظام مجرم الحرب سلوبودان ملوسوفيتش، وتوجت بإقامة القاعدة العسكرية الامريكية في اقليم كوسوفو تمهيداً لتحويله إلى اقليم مستقل، واندلعت ثورة أخرى بجورجيا عام 2003 ، وفتح الرئيس الجديد مخائيل شكاسبيلي البلد أمام المصالح الامريكية، والاتحاد الأوروبي، وانضم إلى الحلف الاطلسي.
في نهاية العام 2004 رفضت المعارضة الأوكرانية الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أدت فوز الرئيس الموالي لروسيا فيكتور لانكوفيتش، وبعد 15 يوم من المظاهرات التي قامت بها المعارضة ألغيت نتائج الانتخابات وأعيدت، واسفرت عن فوز المرشح الموالي للغرب فيكتور يوشينكو عام 2005، وتنتقل الاحتجاجات إلى بيلاروسيا في نفس العام لكنها فشلت بالإطاحة بنظام لوكاشينكا.
الدرع الصاروخية
بالنظر لموقع جورجيا في اتجاه القوقاز، وأوكرانيا في الجنوب الشرقي نجد موقعها قاعدة مناسبة للناتو للانطلاق نحو روسيا ، ووصفت موسكو هذه السياسية بنقل جدار برلين إلى حدود روسيا الاتحادية.
خدمت تلك التغييرات الولايات المتحدة لتطلق ما أسمته مشروع الدرع الصاروخية الذي اعلن عنه بوش في نوفمبر2001، وقال أنه موجه ضد إيران، ولكن الغير معلن هو ضد روسيا، وهذه الصواريخ يبلغ مداها 250 كلم، ويمكن أن تصل إلى مدى أكثر حوالي 1500 كلم.
يقوم المشروع على نشر البطاريات الصاروخية في بولندا، وردارات في التشيك، وأبدت كلاً من جورجيا وأوكرانيا استعدادهما نشر صواريخ اعتراضية، ومنظومة الدفاع الصاروخي في وجهة نظر الروس ستشكل خطراً عليهم، وهي منشأة ضدهم وليس إيران.
خروج عن الصمت
في فبراير عام 2007 خلال مؤتمر ميونيخ للأمن وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال خطابه انتقادات شديدة إلى الغرب، وأكد أن الأحادية القطبية لم تعد مقبولة، واتهم أمريكا بفرض معايير خاصة بها على دول أخرى، وشدد على أن يكون ميثاق الأمم المتحدة الآلية الوحيدة لتبني قرارات المتعلقة باستخدام القوة العسكرية، وحذر من استمرار سياسة القضم الامريكية صوب الحدود الروسية.
ضد من؟
وشكك بوتين بدوافع انشاء الدرع الصاروخية على حدود بلاده قائلاً (نحن قلقون من خطط نشر الدرع الصاروخية في أوروبا) وتابع (أنه لا يوجد علاقة بين عملية توسع الناتو، وتحديث الحلف لذاته وضمان أمن أوروبا، على العكس تماما، هذا استفزاز خطير يقلل من مستوى الثقة المتبادلة، ولدينا الحق في أن نسأل: ضد من هذا التوسع؟).
نهاية عصر السكوت
أعتبرت كلمة بوتين بأنها كانت بمثابة نهاية عصر السكوت الروسي على الهيمنة الأمريكية، ولكن التطور أن الرفض خرج للعلن لأول مرة وبشكل صريح بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وظهور ما يعرف بالنظام العالمي الجديد، الذي أعلنه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، وتصنيف الدول المعارضة لسياستها بالمارقة.
وردت روسيا على مشروع الدرع الصاروخية بشرقي أوروبا والقوقاز بتطوير قدراتها الدفاعية والعسكرية.
تلقت جورجيا وأوكرانيا أقتراحاً بالانضمام لحلف شمال الأطلسي، إذا انضمت جورجيا للحلف فهذا معناه ان واشنطون ضربت عصفورين بحجر واحد، فعبر الأراضي الجورجية تستطيع تهديد روسيا وإيران معاً، وأعتبرته موسكو بمثابة التهديدات الهدامة.
التدخل الروسي
في الواقع منح الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي فرصة ذهبية لروسيا مثل التي قدمها الرئيس الأوكراني فلاديمير زلينسكي، لإيجاد مبرر أو ذريعة روسية للتدخل العسكري في بلديهما، ولابراز القوة العسكرية، وذلك بعدما شنت حكومته هجوماً عسكرياً على جمهوريتي أبخازيا الشمالية واوسيتيا الجنوبية شمال جورجيا، في اليوم التالي ردت موسكو سريعاً وسيطرت على المقاطعتين اللتان كانتا مرشحتين لاحتضان الدرع الصاروخية، وتعترف بهما رسمياً كجمهوريتين مستقلتين مثل ما فعلت مع دونيتسك ودونباس في أوكرانيا.
في الحقيقة هناك جانب آخر يتعلق بالصراع بين واشنطون وموسكو وحليفتها بيجين يتعلق بالهيمنة على آسيا الوسطى، والذي سنتناوله في الحلقة القادمة، ولكن قبلها سنتناول صعود التنين الصيني.