سكان (الكنابي) بالجزيرة.. حرمان من الحقوق وعيش على هامش الحياة (2)

الخرطوم – الجزيرة: حسين سعد

ظل سكان (الكنابي) في ولاية الجزيرة يعانون من حقوق المواطنة المتساوية والحرمان من الحق في السكن الإنساني اللائق، كما تمتد معاناتهم من عدم توفير الخدمات من مياه صالحة للشرب وكهرباء ومؤسسات تعليمية في المراحل المختلفة ومؤسسات صحية وغيرها.

في هذا التقرير يتم تسليط الضوء على معاناة أولئك السكان ورحلتهم التأريخية وأماكن تواجدهم ونشاطهم الاقتصادي ومدى معاناتهم من التهميش والحرمان من الحقوق.

التهميش:

من أبرز القضايا التي يعاني منها سكان (الكنابي) هي التمييز ضدهم وتأسيساً على ذلك، حِرمَانِهم من حقوقهم الطبيعية كمواطنين سودانيين وعدم تقديم الخدمات الأساسية لهم من تعليم وصحَّة ومياه وكهرباء، بينما تُقدَّم جميع الخدمات لمواطني قرى الجزيرة.

ويساهم العمال الزراعيون بنسبة (75%) في العملية الإنتاجية مقارنة بمساهمة المزارعين بمختلف فئاتهم التي تبلغ (25%)، ويحصل العمال الزراعيون على (12%) من العائد مقابل (88%) للمزارعين.

ولم تؤدِّ النهضة الاقتصادية بالجزيرة إلى تغییر اجتماعي، وذلك يعود لعدم اتباع سیاسة تحدیثیة للمجتمع التقلیدي، وعدم إفساح المجال للتغییر الاجتماعي حتى لا یحدث تطور في أسالیب حیاة السكان المعیشیة في رؤاهم وأفكارهم فیقاوموا سیاسة الخضوع التام ویطالبوا بزیادة نصیبهم من الأرباح، وقد نجحت هذه السیاسة في تحقيق هدفها، وقد قامت تلك السیاسة على دعائم (3) هي الإبقاء على الصفوة التقلیدیة التي كانت سائدة قبل المشروع كما عمدت الإدارة من خلال علاقات الإنتاج تحدیداً لوضع الحساب لعدم ظهور طبقة رأسمالیة حدیثة.

ولأهالي الجزیرة اعتداد خاص لكونهم یقطنون المنطقة التي یعمرها المشروع، ویعتبرون أنفسهم طبقاً لذلك من ذوي الحظوة إذا ما قُورنوا برصفائهم في بقیة مناطق السودان. وقد عبر عن هذا الشعور أحد أعلام الجزیرة الشیخ محمد عبد الله الوالي في مقال له نشرته جریدة الجزیرة في عددها (380) في العام (1960) حیث ذكر: (إن سكان الجزیرة إذا قورنوا بإخوانهم سكان أریاف السودان الأخرى لكانوا محظوظین، أولاً لأن آباءهم قد اختاروا لسكنهم هذه المنطقة التي تتوسط السودان المستویة الأرض الخصبة التربة الواقعة بین فرعي النیل الأزرق والأبیض. وثانیاً لأن ظروف منطقتهم هذه قد رشحتها لیقوم فیها هذا المشروع العظیم، الذي كان ولا يزال أهم مشروع اقتصادي بالبلاد وسكان الجزیرة.

سد النقص:

وحول العمالة الوافدة بالمشروع يقول تقرير ورد ضمن التقارير الاقتصادية لبرنامج التحديث والتعمير لسنة (1982) أن القوى العاملة بالمشروع تشكل نسبة (7%) من جملة القوى العاملة في السودان وإن جملة نسبة (102 – 105%) يعتمدون في معيشتهم على مشروع الجزيرة وتشكل العمالة الأسرية (30%) والمحلية (17%) والوافدة نسبة (53%) منها حوالي (20%) عمالة خاصة بجني محصول القطن، وعندما واجه المشروع نقصاً حاداً في القوى العاملة هناك فئات استقدمت أو استجلبت لسد هذا النقـص ممن دفعتهم الظروف إلى النزوح إلى وسط السودان من أجل تقديم العمل المأجور، ولكن في الحقيقــة فإن المزارع لم يزد دوره عن كونه فئة اجتماعية مميزة وسط العمال تماماً كرؤساء العمــــال أو مقاولي الأنفار يجتهد كثيراً من أجل زيادة نصيبه من العائد وذلك من خلال إنقاص الأجور إلى الحد الأدنى الممكن. ولقد تيسرت للمزارعين هذه العملية من خلال توظيف كافة العوامل الموجودة الموضوعية التي حكمت سوق العمل تلك الأيام من توفير الأيدي العاملة المهاجرة التي واجهت عقب وصولها الجزيرة الخيار المحرج بين العمل وبأية شروط ممكنة أو الرجوع إلى الوطن الأصلي البعيد، مع ارتفاع احتمال التهديد المباشر بالجوع والعوز في حالة رفض العمل. والآلية التي يتم من خلالها إقناع العمال المهاجرين بالعمــــل تسمى عملية (المقاولة) وهي في جوهرها عملية مساومة غير منظمة بيـــن المزارع كرب عمل والعمال كقوة عمل حيث يتم من خلال عملية المقاولة هـــذه الاتفاق على كمية العمل والأجر وميعاد دفعه وأية شروط جانبية أخرى كتوفير وجبة غذائية مثلاً أو السكن.

وطبقاً للتقرير يتم تقدير كمية العمل عادة في المقاولة بواسطة القطعة كوتيرة عمل مثلاً (الإنقاية) أو (الحواشة) أو (الرُّباط) أو (الجدول) – وهي مساحات زراعية- ونسبة لأن مختلف الأعمال الزراعية يتم تقدير حجمها والحاجة لإنجازها في الحقل فإن عملية المقاولة عادة ما تتم وسط الحقول بين المزارعين وأولئك العمال الذين يهيمون على وجوههم بحثاً عن العمل، ويستقرون فقط في الأماكن التي يجدون فيها عملاً ويستمرون في المكان بقدر ما تسمح به الفترة اللازمة لإنجاز العمل الزراعي المعين. وقد لعبت الفئات النازحة للجزيرة هذا الدور وكانوا مصدراً رئيسياً للعمل الرخيص المأجور الذي يتم بواسطة عملية المساومة (المقاولة) الحرة وذلك لعدة أسباب:

1/ لم تخطط إدارة المشروع أو أية جهة إدارية أخرى لإيجاد سكن دائم لهؤلاء الناس، كما أنه حتى الوقت الراهن لم يخطط لاحتمال توطين دائم لهؤلاء الناس.

2/ هم أنفسهم لم يكونوا يحلمون بأي قدر من الاستقرار في منطقة الجزيرة، وإنما كان يغلب على تفكيرهم فكرة العودة السريعـة إلى مناطقهم الأصلية محملين بالهدايا وبقدر معين من المال، وعلى هذا كانوا يبحثون عن العمل في أي مكــــــان بدلاً عن أن يبحث عنهم العمل.

3/ حافظت الإدارة البريطانية والمزارعون على هذه الوضعية لأنها تضمن لهم مصدراً دائماً وسبل التعبئة للعمل الرخيــــص، كما تحررهم من مسؤولية إسكان وضمان هذه الأعداد خاصة وقت فتور أو غياب العمل الزراعي الذي يمتد من 1 أبريل إلى 30 أبريل ثم 15 يونيو إلى 15 يوليو ، ثم 15 سبتمبر إلى 30 أكتوبر ثم من 30 ديسمبر إلى 15 يناير سنوياً، وهذا لا ينفي أن أعداداً من الفئات الأخرى قد شكلت عنصراً فاعلاً ضمن أسلوب المقاولة هذا، ولكن يبقى دورها ضمن هذا الأسلوب ثانوياً رغم أهميته، بينمـــا تشكل فئة (العمال) الركيزة الأساسيــــة لهذا الأسلوب تلعب بقية الفئات دور الاحتياطي الذي يضمن سير الأسلوب الذي شرحناه آنفاً على النحو الذي يخدم في النهاية الجوهر الأساسي لنمط الإنتاج الاستعماري من حيث توفير العمل الرخيص وعدم المسئولية حتى تجاه إعادة إنتاج قوى العمل كما هو الحال تحت ظروف الإنتاج الرأسمالي، تتم الصورة وتتحدد أبعادها بالاقتراب الفاحص من شكل آخر من تشكيلات العمل الزراعي بالمشروع وهو ما اصطلح على تسميته (بالطُّلْبَة) ومضمون هذا الشكل هو ما يأتي :ـــ إدراكاً من الإدارة البريطانية لحقيقة تقاعس المزارعين واحتمال عدم حماسهم للعملية الزراعية كلها والناتج عن الشعور بالإحباط المتأصل في نفوسهم خططت هذه الإدارة للتلافي المبكر لأي احتمال سلبي يؤثر على مجرى العملية الإنتاجية، ومن الأسلحة الإحتياطية لمجابهة هذا الاحتمال فإن الإدارة استفادت إلى أقصى حد من البنية الاجتماعية وسط الوافدين من دول الجوار، ونظمت توزيعهم وتحكمت في تطور أنماط معيشتهم وسكنهم بحيث يظلون احتياطياً دائماً حتى يكونوا في متناول يد الإدارة. ولهذا لقد عملت الإدارة على توطينهم في مجمعات سكنية بالقرب من قرى المزارعين وفي أطرافها وكذلك بجوار رئاسات التفاتيش وضمن حدود حركة المفتشين ليسهل الوصول لهم وتعبئتهم، و(الطلبة) تقوم أساساً على تقدير المفتش المبني على إحساسه بعجز المزارع المعين عن (المقاولة) لإنجاز العمل الزراعي إما لعدم كفاية التمويل أو الإهمال، والمفتش هنا يستعمل حقه في تعبئة احتياطي العمال الموجودين في مجمعاتهم القريبة منه وإرسالهم لإنجاز العمل المعين في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة، ويقوم المفتش بصرف أجور العمال أو الطلب من مستحقات أو نصيب المزارع، والفرق الجوهري هنا بين الطلبة والمقاولة أن المفتش لا يهتم أبداً بمصلحة المزارع في إيجاد فرق بين الأجور والنصيب كما يفعل المزارع اعتماداً على قدرته التساومية بل أن المفتش عادة ما يعطي الطلبة كل المبالغ المخصص للعملية الزراعية المعنية وهنا يحقق غرضين مهمين :ـــ

1/ معاقبة المزارع بحرمانه من الفوائض التي يمكن تحقيقها من خلال استغلال فرق الأجور بواسطة المساومة.

2/ مكافأة (الطُّلبة) على طاعتهم بأجور مرتفعة نسبياً إذا ما قورنت بالأموال التي يتلقاها غيرهم من العمال وبذلك تضمن الإدارة لهم حداً من الدخول يمكنهم من البقاء مستقرين ليلعبوا دور الاحتياطي من غير حاجة إلى الحركة الدائبة بحثاً عن العمل. ولهذا لم يكن مستغرباً الاهتمام المبالغ فيه بتلك المجموعات من قبل الإدارة البريطانية، وبالإضافة لتأسيس القرى السكنية لهم والتابعة إدارياً وبشكل مباشر للمفتشين فإن الإدارة قررت في ذلك الوقت تخصيص مساحات من الأرض خارج الدورة أو داخلها تستخدمها تلك المجموعات لزراعة الذرة التي تكفيهم حاجة العام، وتغطي احتياجاتهم الغذائية فقط، وهناك مكاتبات متعددة متبادلة بين إدارة بركات، ومختلف مفتشي الأقسام والمكاتب حول إدارة وإنجاح هذه التجربة، وكذلك اجتمعت الإدارة بتعيين شيوخ (الطلبة) بحسب معطيات نظم بينهم سياسية واجتماعية مع اشتراط إجادة اللغة العربية، ولقد بذلت الإدارة مختلف السبل لتمييز هؤلاء الشيوخ وذلك بإعطائهم أجوراً مميزة إلى غير ذلك من حيل التلميع والترفيع الاجتماعي والاقتصادي.

السكن في (الكنابي):

يقيم سكان (الكنابي) في مساحات زراعية تقع دائماً في نهاية الأراضي الزراعية أو يقتطع المزارع صاحب الأرض جزءاً بسيطاً من أرضه يسكنهم عليها مقابل الخدمة في أرضه زراعةً وحصاداً ونظافة وغيرها مقابل جزء قليل من الإنتاج لهم، وهذه الوضعية تكشف مدى الاستغلال لسكان (الكنابي)، وهذا ما انعكس في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية على الرغم من دورهم الكبير في عجلة الإنتاج.

عموماً يظل القاسم المشترك الذي يربط بين القبائل الأفريقية التي تقيم بالمدن والتي يسكن منسوبوها في (الكنابي) هو (العزلة التامة والبؤس) وهذه الوضعية يمكن إرجاعها للسياسات الحكومية المتبعة وممارسة التمييز ضدهم. كذلك يلاحظ الباحث أن عدداً كبيراً من سكان (الكنابي) أو من العمال الزراعيين تحسنت أوضاعهم الاقتصادية بسبب تعلم أولادهم وهجرتهم إلى خارج السودان وأكثرهم في أوروبا، حيث امتلكت أسرهم أموالاً مكنتهم من إيجار أراضٍ زراعية (دنقدة) أو شراء بعض المساحات بعد حالات التراجع الكبير بالمشروع.

تضييق وهجرة جديدة:

سياسياً لم تهتم الحكومات بقضية (الكنابي)، لكن النظام المخلوع مارس على بعض سكانها تهميشاً متعمداً ودمغ بعضهم بأنهم موالون لحركات الكفاح المسلح من دارفور، ومارس عليهم تضييقاً جعل بعضهم يترك الجزيرة ويهاجر للعاصمة بحثاً عن الأمان والاستقرار، وحاولت محلية الكاملين تنفيذ مشروع تجميع سكان (الكنابي) في مجمع وتشييد قرى نموذجية تتوفر بها الخدمات الضرورية، وفي انتخابات 2010م و2015م مارس النظام المخلوع ألاعيب ماكرة على سكان (الكنابي) من خلال التلاعب بمطالبهم وربطها بالتصويت لحزبه -المؤتمر الوطني المحلول- وقتها حيث تم جمع عدد ضخم من مواطني (الكنابي) بإحدى المحليات وتمت دعوة رجال المال والأعمال والغرف الصناعية والتجارية لتسويق فكرة المجمع السكني والتبرع لتشييده، وحصولهم على قطعة أرض سكنية لكن الحقيقة المرة أن المشروع لم ينفذ.

أوضاع سكان (الكنابي):

وضعية سكان (الكنابي) في الوقت الحالي اختلفت اقتصادياً حيث امتلكت مجموعات كبيرة منهم (حواشات) بسبب هجرة أولادهم خارج السودان وتمكنهم من مساعدة أهاليهم، فضلاً عن إخلاص سكان (الكنابي) أنفسهم وتفانيهم في العمل، وإيجارهم للأراضي الزراعية المعروفة (بالدنقدة)، ولكن تحسن الأوضاع الاقتصادية لسكان (الكنابي) لم يرافقه تحسن في الخدمات في موقع سكنهم من قبل الحكومة في عهد النظام المخلوع التي تعاملت حسب من تحدثوا لـ (مدنية نيوز) أمس الأول، بتهميش مقصود وممنهج تجاه سكان (الكنابي) الذين ترفض حكومة النظام المخلوع عبر ثورة ديسمبر ومؤسساتها المختلفة تسجيل جمعية خدمية أو تنموية لكافة (الكنابي) لكنها في الوقت ذاته – أي الحكومة- تسمح بتسجيل جمعيات وروابط قبلية وجهوية باسم قبائل بعينها، وطبقاً لأولئك المتحدثين فقد هدف النظام المخلوع من ذلك لمزيد من التفرقة بين سكان (الكنابي).

وطبقاً لمتابعات (مدنية نيوز) مع عدد من سكان (الكنابي) فإن الحكومة المخلوعة اتجهت لتوظيف بعض سكان (الكنابي) في مؤسسات عسكرية، ورغم ذلك إلا أن سكان (الكنابي) ما زالوا يعانون من التهميش والإقصاء ونقص الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، وهم لا يتوقعون تحسن أوضاعهم في ظل استمرار الأوضاع الناتجة عن النظرة الدونية تجاههم من قبل الحكومة المخلوعة التي لا تزال آثارها مستمرة، وبعض سكان القرى يرفضون بيع قطعة أرض سكنية لأحد سكان (الكنابي) حيث يتَّحدون فيما بينهم لدفع قيمة الأرض (شيرنق) حتى تبقى ملكية القطعة لصاحبها.

القضية الثانية الخاصة بالتمييز والإقصاء توجد في أسماء (الكنابي) التي يطلق على بعضها أسماء ذات مدلولات خاصة بالحرية والاستقلالية وبتتبع مسار هذه القضية اكتشفت (مدنية نيوز) أن (الكنابي) التي يطلق عليها تلك المسميات كانت في منطقة متاخمة أو مجاورة لإحدى القرى وأن ترحيلهم من تلك المنطقة يعود إلى مشاجرة فردية أو نزاع طفيف، وأن تسامح السلطات في فترة النظام المخلوع وتواطؤها يدفع نتيجته أهل (الكنبو) الذين يتم ترحيلهم إلى منطقة أخرى، فيدفع الغبن وقلة الحيلة أهالي ذلك (الكنبو)، إلى تسمية منطقتهم الجديدة بالحرية وغيرها من المسميات ذات الدلالات الرمزية.

لكن مع هذه الحالات هناك نماذج مختلفة، حيث تلحظ حالياً هجرة غير قليلة من سكان (الكنابي) إلى القرى المجاورة وشراء قطعة أرض وتشييدها، بل إن بعضهم سكن بالمدن الكبرى برئاسة المحلية أو الوحدة الإدارية فالمقارنة هنا مختلفة عن الحالة الأولى الخاصة بالعنف ففي الأخيرة يتضح وجود تعايش مجتمعي وقبول للآخر، وفي الوقت الراهن تشهد بعض (الكنابي) اتساعاً واستقراراً، ووصول التيار الكهربائي وخدمات أخرى مثل بعض (الكنابي) الموجودة في محليات المناقل والحصاحيصا وجنوب الجزيرة و(24) القرشي والكاملين، ولكن بعضها يفتقد للخدمات الضرورية المتكاملة من مياه وصحة وتعليم.

وفي كل المراحل السياسية التي تعاقبت على البلاد وخاصة في فترات الحكم الوطني وما تبع من حكومات عسكرية، كان كثير من هؤلاء السكان يمثلون هدفاً استراتيجياً لأحزاب ونافذي حكومات لكسب أصواتهم في كل العمليات الانتخابية، وانتماؤهم السياسي التقليدي جعلهم عرضة للمزايدات والوعود السياسية، كما تبذل الوعود بمنح من يوصفون بالأجانب منهم الجنسية وتقنين وضعهم وتقديم الخدمات، وما أن تنتهي فترة الانتخابات وبعد أن يحصدوا أصواتهم يتركونهم دون تحقيق هدف واحد.

خاتمة:

يقوم العمال الزراعيون في نظام الشراكة بكل العماليات الفلاحية للأرض من زراعة ونظافة حشائش وحصاد ومن ثم يقومون بقسمة المحصود الإنتاجي بالنصف أو الثلث مع المزارع مع العلم بتقاسم العمال الزراعيين والمزارعين تكلفة تحضير الأرض والضرائب المفروضة من الدولة، أما في نظام الإيجار فيقوم العمال الزراعيون بتأجير الأرض من المزارع لموسم زراعي واحد وللعامل الزراعي حق الانتفاع بكامل محصول الموسم، ويغيب العمال الزراعيون عن العلاقات الإدارية والقانونية الموجودة بين الأطراف في المشروع (الحكومة – إدارة مشروع الجزيرة –المزارعون)، لذلك لا يتحصل العمال الزراعيون على عائد من أرباح المشروع في شكل خدمات أو غيره، كما لا توجد صيغ قانونية تلزم إدارات المشروع بواجباتها تجاههم من إرشاد وتوعية زراعية، وهذه الوضعية حرمتهم من صيغ التمويل من البنوك كالبنك الزراعي وبنك المزارع، وأيضاً هم غير ممثلين في مجلس إدارة المشروع، هذا مقارنة مع فئة المزارعين بوصفها فئة منتظمة ذات ربط إداري وقانوني ولها جسمها النقابي، ولها إمكانية تمويل بنكي ولديها حق على إدارات المشروع.
أغلب العمال الزراعيين يسكنون (الكنابي) وهي كما سبق ذكره عبارة عن مساكن على أطراف قنوات الري (الكنارات – الترع) أو حول مصارف المياه في (اللقد والبراقين) وفي أطراف القرى. و(الكنابي) تكون على مساحات ضيقة جداً وأماكنها لا تصلح لأن يكون بها سكن لائق مستقر، وتعاني من غياب مصادر مياه الشرب الصحية فلا توجد صهاريج للمياه ولا توجد مراكز صحية للعلاج ولا مدارس للتعليم.

وعلى الصعيد الاجتماعي تعاني مجتمعات العمال الزراعيين في (الكنابي) في كثير من الأحيان من العزلة الاجتماعية، فنتيجة لكثرة النزاعات الفردية والجماعية حول أراضي السكن والخدمات والاستفزازات تحدث صدامات بعضها دامٍ، مع بعض مجتمعات المزارعين في عدد من القرى بولاية الجزيرة، كما تعاني مجتمعات (الكنابي) من تدني نسب التعليم فالواقع الاجتماعي الاقتصادي الضاغط الذي يجعل من جميع أفراد الأسرة يكدحون لتوفير متطلبات الحياة يعتبر أحد أهم الأسباب التي تعوق أغلب أبناء عمال (الكنابي) من الالتحاق أو مواصلة تعليمهم وتكملته إلى الجامعي، إضافة إلى بعض المفاهيم الثقافية التي تقلل من أهمية التعليم المدرسي.

ومع غياب الوعي الصحي مثل كيفية التعامل السليم مع الأسمدة والمبيدات المنتشرة في المشروع، تزايدت الحالات المرضية مثل أمراض السرطانات والفشل الكلوي، فزادت نسبة تردد العمال على المستشفيات طلباً للعلاج.

عموماً يرى العديد من السكان والمراقبين أن الأوضاع في (الكنابي) لن تنصلح ما لم يتم تقديم الخدمات فيها وأن تصبح سكناً دائماً ولائقاً وتقديم الخدمات الضرورية من ماءٍ وكهرباء ومؤسسات تعليم وصحة بمواصفات عصريّة، والاعتراف بحقوق سكانها في المواطنة وإنهاء حالة التمييز ضد أبنائهم لدى التقديم للالتحاق بالمؤسسات وتنفيذ معايير الكفاءة والعطاء فقط دون غيرها من معايير يعتبرها الكثير من سكان تلك المناطق (ظالِمة) وفيها تمييز ضدهم.

وكذلك أظهر هذا التقرير أن هناك مطالب بإنصاف سكان (الكنابي)، مع منحِهم تمييزاً إيجابياً يعوِّضهُم الحرمان التأريخي الذي عانوه بسبب ما يطلقون عليه ظلم أنظمة الحكم التي توالت على السودان، بجانب التمثيل في إدارة مشروع الجزيرة والسماح لسكان (الكنابي) بإنشاء نقابات واتحادات وجمعيات وتنظيمات مجتمع مدني تخدِم مصالحهم وتراعي حقوق المواطنة، مع إقامة قرى نموذجية تتمتع بالخدمات المتكاملة يتم تجميعهم فيها.

نماذج مشرقة

وتجدر الإشارة إلى أن هناك محاولات تهدف للتعايش السلمي بين جميع سكان الولاية ومنها مبادرة جامعة الجزيرة العام الماضي التي كان لها دور مؤثر في إرساء التعايش السلمي، بالإضافة الى تجربة العمل المشترك في لجان المقاومة عقب سقوط النظام المخلوع، حيث كانت تجمع تنسيقياتها ثوارأً و(كنداكات) من القرى و(الكنابي) مما ساهم في تعزيز النسيج الاجتماعي والترابط بين سكان الولاية، بجانب تجارب أخرى إعلامية عبر الأجهزة المختلفة (صحف ورقية، إذاعة وتلفزيون) قبل عامين بنقل قصص نماذج التعايش السلمي الناجحة وتسليط الأضواء على المناطق التي لم تكن تتمتع بالخدمات، مما أدى لتدخل رجال أعمال بتنفيذ مشاريع خدمية مثل تجربة تنفيذ شبكة المياه بأحد (الكنابي) بمحلية الحصاحيصا.

كما ساهمت الرياضة في الولاية بدور مهم في ربط سكان القرى و(الكنابي) عبر إقامة دورات تنافسية في كرة القدم، وإقامة مباريات ودية، ودورات للتنافس بين أقسام الإنتاج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *